نماذج لمقدمات استقرائية
1. الاتجاه الإحيائي:
إنطلاقا من المؤشرات النصية الخارجية كوحدة الوزن(نوعه) و القافية(حروف القافية ونوعها) والروي(حرف الروي) و هيمنة المعجم التقليدي، بالإضافة إلى إسم الشاعر(الاسم) الذي يحيلنا على علم من أعلام القصيدة البعثية، إلى جانب التصدير النصي الذي يوحي بغرض من أغراض القصيدة التقليدية الذي هو (نوع الغرض – الرثاء، المدح، الذم...) يمكننا أن نفترض أن النص ينتمي إلى خطاب البعث و الإحياء، فإلى أي حد استجابة القصيدة إلى مقومات هذا الخطاب على المستوى الدلالي و المعجمي من جهة؟ والمستوى البلاغي التركيبي من جهة ثانية؟ و الصوتي الإيقاعي من جهة ثالثة؟
2. الاتجاه الرومانسي:
إنطلاقا من المؤشرات النصية الخارجية التالية كنظام المقاطع وتعدد القافية والروي واعتماد نظام الموشح(إذا وُجد) وهيمنة المعجم الرومانسي (المزاوجة بين ألفاظ الذات والطبيعة) إضافة إلى اسم الشاعر الذي يحيلنا على رائد من رواد المدرسة الرومانسية(اسم الشاعر)، يمكننا أن نفترض أن القصيدة تنتمي إلى الاتجاه الرومانسي، فإلى أي حد استجابة لخصوصيات هذا الاتجاه على المستوى الدلالي و المعجمي من جهة؟ والمستوى البلاغي التركيبي من جهة ثانية؟ و الصوتي الإيقاعي من جهة ثالثة؟
3. الاتجاه الحديث:
انطلاقا من المؤشرات النصية الخارجية التالية كنظام المقاطع القائم على الأسطر المتفاوتة الطول و تنويع القافية و الروي و اعتماد التفعيلة بدل الوزن، بالإضافة إلى المؤشرات الداخلية كتوظيف الأسطورة (إذا وجدت) وخرق اللغة المألوفة بالانزياح و توظيف الرموز(إذا وجدت) إضافة إلى اسم الشاعر الذي يحيلنا على رائد من رواد حركة الشعر الحديث(اسم الشاعر)، يمكننا أن نفترض أن القصيدة تنتمي لحركة الشعر الحديث، فإلى أي حد استجابة لمقومات هذا الخطاب من حيث الشكل و المضمون؟ وما تجليات الحداثة فيها؟ وما مظاهر الخرق والانزياح التي حققتها؟
نماذج لمقدمات استنباطية
1. الاتجاه الإحيائي:
لقد عرف العالم العربي فترات من التدهور و الانحطاط بعد أن صدمته العديد من النكبات التي هدت كيانه و تركت شروخا كبيرة عليه، فمنذ سقوط بغداد إلى انفتاح العالم العربي على نهضة حديثة أساسها التقدم و التقنية حصل انقطاع في خط التتابع الحضاري كان من نتائجه انقطاع الاتصال بالتراث العربي الإبداعي والتوجه إلى الثقافة الأجنبية، وأمام هذا الوضع المتردي للشعر العربي كان لابد من التفكير في بعثه و إحيائه والعودة به إلى أصوله الأولى، والى مستواه الفني في عصور ازدهاره، وذلك بالانكباب على إحياء التراث العربي القديم و معارضة دواوين الشعراء القدامى و مصنفاتهم، واستلهام التقاليد الفنية للقصيدة العربية التقليدية شكلا و مضمونا، وتطويعها لتستجيب لروح العصر كما فعل شاعرنا(اسم الشاعر)، فإلى أي حد استجابة القصيدة إلى مقومات هذا الخطاب على المستوى الدلالي و المعجمي من جهة؟ والمستوى البلاغي التركيبي من جهة ثانية؟ و الصوتي الإيقاعي من جهة ثالثة؟
2. الاتجاه الرومانسي:
ظهرت الرومانسية العربية نتيجة جملة من العوامل منه الانكسارات العربية و إخفاقات الإنسان العربي في كثير من قضاياه المصيرية مما أفرز لذا المثقفين العرب إحساسا بالغربة و الضياع و شعورا بالعزلة و التفرد في مجتمع استحال على الأديب الاندماج في(الاستعمار، التخلف، فساد الأنظمة، الاستبداد...)، إضافة إلى الغزو الغربي للعالم العربي فكريا و ثقافيا و أدبيا و عسكريا، وانتشار الكثير من الأفكار والشعارات الليبرالية، اطلاع بعض المثقفين العرب على الأعمال الغربية وترجمة مؤلفاتهم ومحاولة تبني الأدب الرومانسي، والثورة على القصيدة العربية التقليدية شكلا ومضمونا كما فعل شاعرنا (اسم الشاعر) في قصيدته هذه، فإلى أي حد استجابة لخصوصيات هذا الاتجاه على المستوى الدلالي و المعجمي من جهة؟ والمستوى البلاغي التركيبي من جهة ثانية؟ و الصوتي الإيقاعي من جهة ثالثة؟
3. الاتجاه الحديث:
يعتبر الشعر الحديث شهادة جيل حديد، احدث تغييرا جذريا في الإبداع الشعري بتكسير البنية الشكلية التقليدية و التحرر من كل أنساقها الثابتة، حيث كان هذا الجيل مفعما بالثورة والإحساس بضرورة تغيير الواقع العربي، متخذا الأداة الشعرية وسيلته لفهم الواقع في عمقه، يعتبر (اسم الشاعر) من أوائل الشعراء الحداثيين الذين خلخلوا البنية الشعرية بمكوناتها التقليدية من خلال تبني رؤيا شعرية جديدة مخالفة للرؤى الشعرية السابقة، والتماس أدوات تعبيرية وأساليب فنية قائمة على الخلق والابتكار والتفرد والتعاطي مع التراث الإنساني بتوظيف رموزه وأقنعته وأساطيره والتفاعل مع مختلف الثقافات المعاصرة والاستفادة منها، فإلى أي حد استجابة هذه القصيدة لمقومات الخطاب الحديث من حيث الشكل والمضمون؟ وما تجليات الحداثة فيها؟ وما مظاهر الخرق والانزياح التي حققتها؟
الشعب : الأدبية
|
النص:
الباب تقرعه الرياح
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحِ في اللَّيْلِ العَمِيقْ
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ كَفُّكِ .
أَيْنَ كَفُّكِ وَالطَّرِيقْ
نَاءٍ ؟ بِحَارٌ بَيْنَنَا ، مُدُنٌ ، صَحَارَى مِنْ ظَلاَمْ
الرِّيحُ تَحْمِلُ لِي صَدَى القُبْلاَتِ مِنْهَا كَالْحَرِيقْ
مِنْ نَخْلَةٍ يَعْدُو إِلَى أُخْرَى وَيَزْهُو في الغَمَامْ
* * * *
البَابُ مَا قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرِّيحْ ...
آهِ لَعَلَّ رُوحَاً في الرِّيَاحْ
هامَتْ تَمُرُّ عَلَى الْمَرَافِيءِ أَوْ مَحَطَّاتِ القِطَارْ
لِتُسَائِلَ الغُرَبَاءَ عَنِّي ، عَن غَرِيبٍ أَمْسِ رَاحْ
يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ ، وَهْوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انْكِسَارْ .
هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيقْ ،
حُبُّ الأُمُومَةِ فَهْيَ تَبْكِي :
* * * *
" آهِ يَا وَلَدِي البَعِيدَ عَنِ الدِّيَارْ !
وَيْلاَهُ ! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لاَ دَلِيلَ وَلاَ رَفِيقْ "
أُمَّاهُ ... لَيْتَكِ لَمْ تَغِيبِي خَلْفَ سُورٍ مِنْ حِجَارْ
لاَ بَابَ فِيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلاَ نَوَافِذَ في الجِدَارْ !
كَيْفَ انْطَلَقْتِ عَلَى طَرِيقٍ لاَ يَعُودُ السَّائِرُونْ
مِنْ ظُلْمَةٍ صَفْرَاءَ فِيهِ كَأَنَّهَا غَسَق ُ البِحَارْ ؟
كَيْفَ انْطَلَقْتِ بِلاَ وَدَاعٍ فَالصِّغَارُ يُوَلْوِلُونْ ،
يَتَرَاكَضُونَ عَلَى الطَّرِيقِ وَيَفْزَعُونَ فَيَرْجِعُونْ
وَيُسَائِلُونَ اللَّيْلَ عَنْكِ وَهُمْ لِعَوْدِكِ في انْتِظَارْ ؟
البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ لَعَلَّ رُوحَاً مِنْك ِ زَارْ
هَذَا الغَرِيبُ !! هُوَ ابْنُكِ السَّهْرَانُ يُحْرِقُهُ الحَنِينْ
أُمَّاهُ لَيْتَكِ تَرْجِعِينْ
شَبَحَاً . وَكَيْفَ أَخَافُ مِنْهُ وَمَا أَمَّحَتْ رَغْمَ السِّنِينْ
قَسَمَاتُ وَجْهِكِ مِنْ خَيَالِي ؟
أَيْنَ أَنْتِ ؟ أَتَسْمَعِينْ
صَرَخَاتِ قَلْبِي وَهْوَ يَذْبَحُهُ الحَنِينُ إِلَى العِرَاقْ ؟
* * * *
البَابُ تَقْرَعُهُ الرِّيَاحُ تَهُبُّ مِنْ أَبَدِ الفِرَاقْ
بدر شاكر السياب لندن 13- 3 -1963
حلل النص تحليلا أدبيا متكاملا مركزا على ما يلي: (12 نقطة).
1- ضع النص في إطاره العام.........................................................................2 ن
2- استخرج الوحدات الفكرية/المقاطع النصية وادرسها........................................3 ن
3- حدد المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها النص مستخرجا خصائصها.................3 ن
4- ادرس مظاهر التجديد في القصيدة من خلال توظيف الرمز والايقاع....................4 ن
دراسة المؤلفات:(08 نقط)
ورد في رواية أوراق ما يلي:
"حلمنا بمغرب شاب للشبان، مغرب عادل حازم ينظر إلى الأمام و يعمل بهمة و طموح، فكشف لنا عن مغرب شيخ للشيوخ، ينبذ كل يوم مقياسا جديدا من مقاييس العصر. كنا طفيليين في مغرب الأجانب، و ها نحن أجانب في مغرب الأشباح العائدة" أوراق عبد الله العروي ص61
السؤال:
هل يمكن اعتبار أوراق رواية لصراع جيلين؟ ناقش هذه الفكرة من خلال ما درسته في "الرواية".
عناصر الإجابة
نقط مساعدة لتأطير تحليل النص المقترح:
*- يقدم الممتحن بعد قراءة النص وفهمه فهما جيدا، مقدمة يشير فيها إلى عناصر الإطار العام:
1 صاحب النص، بدر شاكر السياب مع التركيز على ما له علاقة بالموضوع قيد الدرس (الغربة).
2- نوعية النص ومصدره: قصيدة شعرية حرة، شعر التفعيلة/ لا يشير إلى باقي التفاصيل لأن التلميذ يحتاج إليها في مرحلة التحليل.
3- موضوع النص: يصوغ فكرة النص بطريقته الخاصة مركزا على: الغربة- الحنين- العذاب- الشوق للمكان...وللتذكير فالنص حافل بالإشارات الدلالية وكل حصر إنما هو قتل لروح الشعر في النص.
*- يقوم الممتحن في الفقرة الثانية- مراعيا أدوات الربط المناسبة- بتقسيم النص إلى مقاطع دلالية مناسبة، بصريا فإن النص مقسم، لكن ينبغي الانتباه إلى أن التقسيم البصري الخطي يكون في كثير من الأحيان مجرد خدعة للقارىء.
1- يشير الشاعر في المقطع الأول إلى غربته وابتعاده عن المكان، مستحضرا الأنثى كأداة للخطاب.
2- انكسار الشاعر وضعفه أمام تجربة الغربة والبعد عن الأهل (الأم)، وتذكره لأمه في عناصر المكان.
3- كشف الشاعر عن حقيقة غربته وربطه بين موضوع الأم وموضوع الوطن (العراق).
*- يناقش الممتحن هذه الأفكار في ثلاث فقرات منفصلة عن بعضها البعض مراعيا أدوات الربط المناسبة:
تجربة الغربة في الشعر الحديث والمعاصر، التيار الشعري، تقديم أدلة وشواهد . موضوع الغربة من حيث الجدة والقدم...
- أهمية حضور الأنثى في النص الشعري المعاصر، رمزية الأنثى/ علاقة الأنثى بفضاء النص العام....
- تجربة الغربة والحنين إلى الوطن: علاقة الوطن بالتجربة الشعرية للسياب من خلال النص، الأبعاد، التجليات، موقع موضوع الوطن من الشعر المعاصر....
* تحديد المدرسة الشعرية التي ينتمي إليها الشاعر: مدرسة المعاصرة والتحديث / الرومانسية/الرمزية.
-استخراج مميزات هذه المدرسة من خلال النص:
- رؤية/تجربة رومانسية ورثها الشاعر عن الحقبة الماضية. الغربة/ الأنثى= الأم/الوطن / بعض عناصر الطبيعة.
- توظيف الصورة الشعرية: يستخرج التلميذ بعض النماذج ويقوم بتحليل عناصرها.
- بعض الأساليب البيانية المعززة للصورة الشعرية/ يلاحظ أن الصورة الشعرية عند السياب مركبة.
- توظيف الانزياح.
*- مظاهر التجديد من خلال الإيقاع وتوظيف الرمز:
على مستوى الرمز وتوظيفه:
النص يعتمد مجموعة من الأنوية الرمزية يمكن التطرق إليها مفردة أو مركبة مغ غيرها، من أمثلة ذلك:
رمزية الأنثى: الأم= الخير / العطاء/ الحنان/ الحب...
رمزية الكف: الجود/ الكرم....
النخلة- المرافئ-الصحارى-الغيوم....
إن الرمز هنا يختلف عن الأسطورة في كونه نواة مكثفة لعدد لا متناهي من المعاني، ولا يرتبط بواقعة "تاريخية" معينة.
(....)
على مستوى الإيقاع: يشير التلميذ الممتحن إلى:
تحررت التجربة الشعرية الحديثة من كثير من القيود القديمة:
- هيكل القصيدة وبنائها الشعري.
-خرق نظام البيت.
- وحدة التفعيلة.
يمكن للتلميذ هنا الإشارة إلى بعض العناصر الإيقاعية مثل: التكرار بأنواعه: الصوتي والتركيبي وتكرار الكلمة
- التنغيم- النبر.
* خاتمة مناسبة يضمنها الممتحن النتائج والخلاصات المتوصل إليها بخصوص القصيدة المدروسة.
*********************************
التحليل إبداع فاحرص دائما أن يكون موضوعك مختلفا عن غيرك، أنت هو موضوعك وموضوعك هو أنت. هيكل بطريقة أخرى.
|
|
أولاً: درس النصوص (14 نقطة)
الواقع الاجتماعي في شعر حافظ و شوقي
يتأثر الشاعر بالواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، و هو في الوقت نفسه يؤثر في هذا الواقع بما يصدر عنه من أشعار يتلقاها أفراد المجتمع، و يتأثرون بما فيها، وهذا التأثير و التأثر نسبي يختلف من شاعر إلى آخر، و إن كان معاصراً له، على نحو ما هو ظاهر في شعر كل من شوقي و حافظ؛ إذ أنهما تعاصرا في حياتهما، إلا أنهما تباينا في تأثيرهما و تأثرهما بالواقع الاجتماعي الـذي عاشا فيه. و من ثم كان الفرق بيِّناً في رؤية كل منهما لصورة مصر و الواقع الاجتماعي للمصريين في مطلع القرن العشرين، و طرح الحلول لما يعاني منه المجتمع من صنوف الأمراض الاجتماعية. إن الفرق بين رؤية كل منهما لمصر و الواقع المصري حدد موقف كل منهما من الواقع الاجتماعي...
و الدارس "للشوقيات" يحس بأن رؤية أمير الشعراء لمصر و واقعها الاجتماعي، إنما هي رؤية (مصر التاريخ)، بما وقع فيه من أحداث عبر قرون طويلة، و من ثم جاءت هذه الصورة مطبوعة بتوقيعات فرعونية و يونانية .. و إسلامية و عثمانية؛ إنها صورة الوجدان و الكيان المعنوي أكثر من صورة المكان و تبعيته أو استقلاله. و لعل هذا ما يجعلنا – و نحن نقرأ شعره بحثاً عن الواقع الاجتماعي- نحس بالتركيز على بناء الوجدان و الكيان المعنوي، كحل للمشكـل المصـرية بالعلـم و الأخلاق.
أما شاعر النيل فيرى أن حل المشكلة المصرية، إنما يقوم على فهـم طبيعة مشـاكل المكـان و حلها، و من ثم كان التركيز على كشف عيوب الحياة المصرية السياسية و الاجتماعية؛ فتوقف طويلاً عند فرقة الرأي بين القادة، و الاستسلام و الخضوع للمستعمر و أدواته، و هو لم يغفل أهمية العلم في هذا الصدد، لكنه كان ينظر إلى العلم في إطار الواقع، أي في إطار مصر و المصريين.
إننا نحس في "الشوقيات"، حين يعرض صاحبها للواقع الاجتماعي، أننا أمام كيان ثابث ثبوت التاريخ، أما عند شاعر النيل فإن هذا الكيان متحرك، غير أنه أصيب بغفوة أوقفـت هـذه الحـركة، و الشاعر يريد أن يبعث في هذا الكيان روح اليقظة. و لعل اختلاف بيئتي الشاعرين كان من وراء هذه الفروق؛ ذلك أن شاعر النيل ينطلق في حديثه عن الواقع الاجتماعي، و كأنه يتحدث بلسان مصر، متأثراً بمعاناته و معاناة شعبها؛ ففي شعره نحس نبض هذا الشعب و واقعه الاجتماعي؛ يصوره لنا رجل من أبناء الشعب، شاءت الأقدار أن يعيش كادحاً مكافحاً طول حياته، لم ينعم بحياة مستقرة مترفة، و من هنا شكلت هذه المعاناة أحاسيسه و صوره؛ فجاءت معبرة عن الواقع الاجتماعي، و ما كان عليه أبناء الشعب من فرقة...
أما أمير الشعراء، فإن ما نعم به من حياة مترفة مستقرة، جعل نبض مصر عنده هادئاً إلى حد ما، و لعله من أجل هذا كان يرى مصر بصورة التاريخ و وثائقه، و يخاطب في المصريين عقولهم أكثر من التركيز على الوجدان و إثارته، و من ثم، كان الحل عنده حلاً هادئاً، يتمثل في مطلبين أساسيين: العلم و الأخلاق... أما حافظ فكان ينشد الحل في عمق الكيان الشعبي، وكان يريد أن يهز هذا الكيان هزة توقظه من ثباته، و تحركه حركة دائبة، تناسب حجمه في عمق تاريخ الإنسانية.
إن رؤية شوقي أقرب ما تكون إلى رؤية "الدبلوماسي" الرسمي و ما تتسم به من نزعة رسمية هادئة و تقريرية؛ أما حافظ فإن رؤيته رؤية "الصحفي" الذي اتخذ من قلمه وسيلة لاستثارة همة أبناء وطنه.
محمد عويس محمد/مجلة: فصول ../ المجلد الثالث/ العدد 2 ص 246-247 / يناير-فبراير-مارس 1983.(بتصرف)
ادرس هذه المقالة دراسة أدبية متكاملة، معتمداً خطوات القراءة المنهجية مركزاً على ما يلي:
*تحديد القضية المركزية المطروحة و توضيحها.
*بيان المنهج النقدي الذي اعتمده الكاتب للدفاع عن أطروحته و مناقشته.
*رصد خصائص المقالة.
*استخراج بعض مظاهر الاتساق و الانسجام في النص و بيان دورها في تبليغ أطروحة الكاتب.
ثانياً: درس المؤلفات (6 نقط)
تعكس رواية "الريح الشتوية" تطور المجتمع المغربي و مستوى وعيه الوطني، مما ادى إلى الإيمان بالمقاومة اختياراً أساسياً لاسترجاع الأرض و تحرير الوطن.
إنطلاقاص من هذا القول، و اعتماداً على قراءتك الرواية، اكتب موضوعاً تبرز فيه المتن الحكائي للرواية و البعد الاجتماعي فيها.
|
1- درس النصوص: (14 نقطة)
معتركالحياة
هو الدهر لم يترك مَشـَنَّ غــــواره على سـابـق مـن ليلــه أونهــاره
يثير غبار الحادثات بكـــــــرِّه و هـل نحـن إلا مـن مثـارغبــاره
و كم عبرٍ مطوية في صروفـــــه فهـل مـن مجيـل فيه طـرفاعتبـاره
خليلي إن الأرض غربال قـــــدرة تجمعـت الأحيــاء بيــنإطـــاره
تميد به كف الزمان تحركـــــــاً لمحـو ضعيـف أو لإثبــاتفـــاره
فيبقى به الأقوى قرين ارتقـــــانه كمـا يسقـط الأوهـى رهيـنانـدثـاره
فلا عيش في الدنيا لمن لم يكن بـــها قـديراً علـى دفـع الأذى والمكـــاره
أرى الشمس تخفي ضوءها كل شـارق و إن كان ينبو الطـرف عـنمستنــاره
و ما ذاك إلا أنها في تلهــــــب يمـوج بنـور سـاطـع و قـدٌنـــاره
فلم يستطع نجم طلوعاً تجاهـــــها إذا لـم يعـد بالليـل غـبَّاعتكـــاره
كذاك ضعيف القوم إن كان جـــاره قويـاً يكـن شلـوا أكيــلالجـــاره
و ما الليث لولا بأسه في عرينــــه بأشـرف من ضبِّ الفـلا فيوجـــاره
و من غاور الأيام غير مدجَّـــــج فلا يطمعـن في مغنـم مـنمغـــاره
لك الخير هل للشرق يقظة ناهـــض فقـد طال نـوم القـوم بيـنديـــاره
ألم تر أن الغرب أصلت سيفـــــه عليهـم و هـم لاهـون تحت غــراره
وبادرهم كالسيل عنـد انحــــداره و هـم في مهـاوي غفلـة عـن بـداره
أما آنللساهين أن يأبهوا لــــــه و قد أصبحوا في قبضة مـن إســـاره
تراهم جميعاً بينحيوان واجـــــمٍ و آخر يطري مـاضياً مـن فخـــاره
شروحمساعدة: الغوار: كالإغارة و هو الهجوم / سابق: جواد / فاره:المقصود القوي / اعتكرالليل: اشتد سواده / الشلو: العضو من اللحم / وجار: حجر / المدجج: اللابسالسلاح / واجم: ساكت لشدة حزن أو غم / غرار السيف: حده / حيوان في البيت الأخير تقرأ حيوانللضرورة الشعرية.
مصدر النص: ديوان الرصافي / دار العودة / بيروت / ص.100 و مابعدها بتصرف.
صاحب النص: معروف الرصلفي شاعر عراقي عاش ما بين (1878 – 1945)،بالإضافة إلى ديوانه له عدد من المؤلفات في اللغة و الأدب و الدين.
*********************
اكتب مقالا تحلل فيه النص تحليلا أدبيامعتمدا مراحل القراءة المنهجية و مبرزا طبيعة خطاب البعث و الإحياء الذي يمثله النصمع توظيف مكتسباتك من الدروس اللغوية و من دروس التعبير و الإنشاء.
*********************
2- دراسة المؤلفات: (6 نقط)
ارصد انطلاقامن فصل "المدرسة" في مؤلف (أوراق) لعبد الله العروي عناصر ثقافة "ادريس" و أثرها فيمواقفه في الفصلالمذكور
_________________
السبْع المعلّقات [مقاربة سيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - د.عبد الملك مرتاض
3- جماليّة الحيز في المعلّقات
فلماذا إذاً الحيز، وليسالفضاء؟
إننا نعتقد أنّ الفضاء أوسع من أنيشمل الحيز شمولاً تفصيلياً، وأشسع دلالة من أن يحتوي هذه المساحة الضيقة، أوالمحدودة الأطراف، التي نودّ إطلاقها على مكان جغرافيّ ما، أو على ما له صلةبالمكان الجغرافيّ، على نحو أو على آخر. فالفضاء كلُّ هذا الفراغ الشاسع الذي يحيطبنا من الكون الخارجيّ. وهو أيضاً كلّ هذا الفراغ الهائل الذي يمتدّ من حولنا معامتداد مدى أبصارنا. أمّا أن نطلق الفضاء على مكان محدود بالمساحة والمسافة تركضفيه أحداث رواية، أو تضطرب حَوالَه حركةٌ حيزيّة حيّة في قصيدة شعرية؛ فإننا لا نرىإتيان ذلك إلاّ من الحرمان، وقصور الذوق اللغويّ.
إن الفضاء، في تصوّرنا، نحن علىالأقلّ لمدلول هذا اللفظ، أوسع من مدلول لفظ الحيز الذي نتصرف فيه، نحن، تبعاًلورود أطواره، وتعرض أحواله في النصّ الأدبيّ شعراً كان أم سرداً. ذلك بأننا نعدُّكلّ جسم ناتئٍ، كأن يكون شجرة، أو نبتة، أو كرسياً، أو سيارة، أو حيواناً متحركاً،أو إنساناً ماشياً، أو هيئة للحركة في أيّ من مظاهرها، أو نهراً جارياً، أو وادياًمتخدّداً، أو ربوة عالية، أو كثيباً بادياً، أو نخلة باسقة، أو خيوط مطرٍ هاتنة، أوحبّات ثلجٍ هاطلة، أو طريقاً مستقيماً أو ملتوياً: حيزاً.
ثم لا نزال نتصرف في ذلك ونتوسع حتىنُنْشِئَ من النخلة العَيْدَانَةِ المَتَرَهْيئَةِ حيزاً، ومن امتداد القامةواهتزاز هيئتها حيزاً، ومن الفَيْءِ الذي تحدثه الشجرة الوارفة الظّلال، تحت أشعةالشمس المتوهجة، حيزاً، ومن تلاطم أمواج البحر وتصاخبها حيزاً، ومن كلّ شيء يمكن أنيتحرك، فيُمَسَّ، أو يُلْمَسَ، حيزاً.
وإننا، وانطلاقاً من هذا التصور،نَمِيزُ المكان من الفضاء، كما نَمِيزُ الفضاء من الحيز، كما نميز الحيز من المجال،كما نميز المجال من المحلّ، وهلّم جرا.... فنطلق، في العادة، المكانَ على كلّ حيزجغرافي معروف (ولعلّ التعريفات الفلسفية تجنح لهذا أيضاً، ولكن في سياق آخر) علىحين أننا نطلق الحيز على الأحياز الخيالية والخرافية والأسطورية، وما لا يمكن أنيقع تحت حكم الاحتواء الجغرافيّ بشكل واضح دقيق.....
ولقد كان لنا في ذلك تطبيقاتٌ كثيرةعلى النصوص الأدبيّة التي حلّلناها في كتاباتنا الأخيرة (1).
وللمكان، وللحيز بعامة، على الإنسانفضل الاحتواء، وشرف الاشتمال، فالحيز شامل والإنسان مشمول. وقل إن شئت، كما ورد فيبعض التعريفات الإسلامية القديمة، فالحيز شاغل والإنسان به مشغول. فلا يمكن لأيّكائنٍ حيّ، كما لايمكن لأيّ آلة أيضاً، أن تكون، أو تتحرك، إلاّ في إطار الحيز الذياستهوى تفكير الفلاسفة منذ القديم فحاولوا فلسفته، وتحديده،ومفْهَمته(2).
وإذا كان المكان بالمفهوم الماديّالمحسوس لا يكاد يعنى به إلاّ الجغرافيّون؛ وإذا كان المكان بالمفهوم العامّ المجردلا يعنى به إلاّ الفلاسفة؛ فإن الحيز، كما نتصوّره نحن، عالم شديد التعقيد، متناهيالتركيب، يتشكّل بلا حدود، ويتنوع في أفق مفتوح.... ومن العسير الانتهاءُ فيه،نتيجةً لذلك، إلى تعريف صارم، وحكم قائم. ولعلّ سعة مفهوم الحيز وامتداد أبعادمدلولاته هما اللذان جعلانا نُعْنَى به من الوجهة الأدبية الخالصة فنجتهد في بلورةمفهومه ضمن إطار الأدب البحث، لا ضمن إطار الفلسفة المجرد؛ وضمن إطار الخيالالمجنّح، لا ضمن إطار الواقع المحدَّد.
ولقد كان للحيز شأنٌ شريف في أخيلةقدماء الشعراء العرب حيث استرعى أخيلة شعراء أهل الجاهلية فكان له لديهم أهمَّيةٌفبكَوْهُ من خلال بكاء آهِلِه، وأحبّوه ضمن حُبِّ قاطنه، وحزِنوا عليه عبر الحزنعلى مُزايله؛ فإذا الشعر الجاهليّ بعامة، والمعلّقات بخاصة؛ تعجّ بذكر الأحيازعجيجاً، وتلهج بسردها ومَوْقَعَتِها لهجاً. ولعلّ أشهر بيت في الأدب العربي على وجهالإطلاق وهو:
لقد خالفناجماعة النقاد العرب المعاصرين في أنهم يصطنعون "الفضاء"، وفي أننا نصطنع "الحيز".
قفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍومنزِلِ
|
|
بِسقْطِ اللِّوى بين الدّخولفَحَومَلِ
|
قائمٌ نسْجُه على ذكر الأمكنة،والحنين إليها، والازدلاف منها، والبكاء عليها، وبالتلذّذ بتردادها: فقرِنَتْالحبيبة الذاهبة بالحيز الباقي، وبُكِيَتْ الراحلة بالمكان الدارس، والرسم البالي. ففي هذا البيت الذي يكمّله صِنْوُهُ الذي يليه، تصادفنا سلسلة من الأحياز الشعريةكأنّ النّاصّ كان يحرص أشدّ الحرص على أن يحدّد لنا من خلالها دار حبيبته، وموطنحبه، ومَسْقَطَ ذكرياته -أو لم نجده يُمَوقِعُ دار هذه الحبيبة بهذا المكان الذيلاتعرف الجغرافيا عنه شيئاً يذكر- وهو سِقْط اللِّوى- وإن كان الشعر قد يعرف عنهشيئاً يذكر...؟ ثم ألم تَمَوْقَعْ هذه الدار بين أربعة أمكنةٍ أخراةٍ كيما تكون هيواسطة عِقْدِها، ومركَزَ مَواقِعِها...؟
إنّ الشاعر العربيّ القديم لم يكنقادراً على قيل الشعر خارج المكان الذي كان يملأ عليه نفسه وروحه، ولا بالتخيّلخارج حبل الحنين العارم الذي كان يشدّه إلى هذا المكان شدّاً؛ فكان المكان، بالقياسإليه، بمثابة المادّة الكريمة التي يستمدّ منها إلهامه؛ بينما كانت الحبيبة، التيتقطنه، ثم تحمّلت عنه وزايلته إلى غير إياب، هي ينبوع الإلهام الثّرّ الذي كانيستلهمه: فيجهش بالبكاء، وتتبجّس نفسه بالحنين، ويطلق لسانه في الوصف، ويرسل ذاكرتهمع الزمن الذاهب، والعهد الغابر، ثم لا يزال ينسج على الذكرى، والبكى، والحنين،نسوجاً متفرّعة عنها تقوم في وصف الناقة التي بفضلها استطاع أن يَعُوجَ على حيزالذكرى، ويَمرَّ دار الحبيبة المتحمّلة. كما تقوم في وصف البقرة الوحشية التي كانتتذكّره عيناها بعينيها؛ وفي وصف الرئم الذي كان يذكّره بياضه ببياضها، وجيدُهبجيدها، ورشاقته برشاقتها.... فحتى ما قد يَبدو، لأول وهلة، منفصلاً عن ملحمةالمكان، بعيداً عن مناسبته، هو في حقيقته مُنْطَلقٌ منه، صابٌّ فيه، مُفْضٍ إليه. فلولا الناقةُ لما استطاع الشاعر الجاهليّ أن يعوج على طلل الديار المُقْفِرَةِ. ولكن ما كان ليكون لهذه الناقة شأنٌ لو ضربت به في أقاصي الأرض الشاسعة دونالمَعاجِ على ذلك المكان الذي لم يكن يتجانَفُ عنه؛ وإنه كان، فيما يبدو، يتعّمدالجنوح له، والمَيْل عليه.
ذلك، وقد ذهب جميل صليبا إلى أنه لاتمييز في المعنى بين المكان والحيز(3). والأسوأ من ذلك أنه ذكر لفظ (espace) مرادفاً للمكان في عنوان مقالته، ثم لم يلبث، من بعد ذلك، أن أطْلَقَ عليه "المحل" أيضاً، وكتب مُقابِلَه الفرنسيّ بين قوسين وهو (lieu): ليتضح المعنى في الذهن،وليتبدّد الغموض من العقل. ونحن لا نوافقه على ذلك:
1- لأننا نرى أن المكان لا ينبغي أنيكون مرادفاً للفظ الفرنسي (espace) والانجليزيّ (space) والإيطاليّ (spazio)؛ إذلا أحد من عقلاء الأمم الغريبة يطلق (le lieu) على (L’espace) ولا ( L’espace) علىالمكان إن ( Lelieu ) ليس المحلّ بالمفهوم الضيق، وإنما هو المكان.
وقد ألفينا الشيخ يعقد مادة أخراةفي معجمه، تماشياً مع معجمات الفلسفة العالمية، تحت عنوان: "الأين" ويترجمها أيضاًبـ (lieu)(4). بيد أنه يلْبِسُه، تارة أخراة، بالحيز. ولم نجده خصّ هذا المصطلحبمادة على حدةٍ، كما كنا رأينا، حيث تناوله تحت مصطلح "المكان" الذي يبدو أنّمفهومه ظلّ يلتبس، في المقررات الفلسفية العربية، بالمحلّ والحيز التباساً شديداًعلى الرغم من وجود بعض الإشارات التي توحي، في مقررات الفلاسفة المسلمين، بجزئيّةالأين، وكلية المكان.
وكنّا نودّ لو أنّ مصطلح (espace) ترجم تحت مصطلح الحيز الذي نتعصب له وننضح عنه، ومصطلح (lieu) تحت مصطلح المكان. وكنّا نودّ لو أنهم دقّقوا في شأنه تدقيقاً صارماً في ضوء المفاهيم الفلسفيةالمعاصرة التي بلورت إلى حدّ بعيد. وبدون ذلك، وفي انتظار ذلك أيضاً، سيظلّالالتباس شأننا، والخلط سيرتنا، في اصطناع هذه المفاهيم التي هي موجودة، أصلاً، فيالتراث الفكري العربي الإسلاميّ؛ وإنما الذي ينقصها هو التطوير والتدقيق، والتوسعةوالبلورة.
وإذن، فإننا نعتقد بسوء الترجمةالتي اجتهد فيها جميل صليبا فاتخذها مقابلاً للمصطلح الغربي (Espase).وقد نشأ عنهذا المنطلق الذي نعتقد أنه خاطئ، تصوّر خاطئ، والشيخ يعرف هذا حقّالمعرفة.
وفي هذه الحال، قد يكون مصطلح "الفضاء" حين يتخذه النقاد العرب المعاصرون مرادفاً لـ (l’espace): أهون شرّاً،وأخفّ ضرّاً، وإنما تردّدنا، نحن، في متابعة أولاء النقاد في اصطناع هذا المصطلحلما أحسسناه، من الوجهة الدلالية، من سعة معناه؛ فهو عامّ جداً. وإذا كان النقادالغربيون يصطنعون مصطلح (l’espasce)، فلأنهم لا يريدون به حتماً إلى المكان، ولاإلى الفضاء بمعناه الشامل أيضاً؛ حيث كيّفوه فصرفوه في مصارف ضيقة فأفادوا من هذاالصرف. من أجل كلّ ذلك ترجمناه نحن بـ "الحيز" (5) لاعتقادنا بأنه بمقدار ما هوضيّق الدلالة أو دقيقها حين ينصرف الشأن إلى معنى المكان؛ بمقدار ما هو أشدّتسلطاً، وأقدر قدرة على التنّوع الدلاليّ الذي وضع له بحيث لا يمتنع في الغرب، كمالا يمتنع في دلالة الحيز، بالمعنى الذي نريده له، أن يتمطّط ويتمدّد، ويتشعّبويتبدّد، ويتحرك نحو الوراء كما يمكنه أن يتحرك نحو الأمام، ويَصَّاعَدَ إزاءالأعلى كما يهوي إزاء الأدنى: ينكمش كما ينطلق، ويتقلّص كما يتطالل.
وقد تعامل الفلاسفة المسلمون، ولكنبشيء من الغموض الذي لايُنْكَر؛ فهو لدى ابن سينا مثلاً: "السطح الباطن من الجرْمالحاوي المماسّ للسطح الظاهر للجسم المَحّوِيّ" (6). فالمكان لدى ابن سينا إذاً: سطح يتفرع عن السطح الأصليّ (الظاهر) الذي يَظْرِفُ الجسم (ولعل الجسم هنا بالمفهومالفيزيائي، لا بالمفهوم المعجميّ البسيط). فكأنّ المكان لديه جزء مِمَّنْ، أو ممّا،يتجزّأ في المكان. أو قل: هو بعضٌ أدنى، لكلّ أعلى؛ أو جزء باطن، لكلّ ظاهر. فالحيزلديه (وذلك إذا حقّ أن نمرق به عن المتصوّر في ذهن ابن سينا أصلاً) كأنه مجرد هيئةمحدودة في المكان؛ فالمكان أعمّ منها وأشمل؛ فما قولك في الفضاء الذي زعمنا أنهأوسع سعةً في الدلالة من المكان. ولو ذهبنانتلطّف في قراءة تعريف ابن سينا للمكانلألفيناه يدنو به إلى أدنى مستواه الدلاليّ. وكأنه كان يريد به، في منظورنا، إلىالحيز فطفر في تعبيره المكان.
وأيّاً كان الشأن، فإنّ المكان لدىجميل صليبا هو الحيز نفسه بصريح عبارته (7). لا فرق بينهما و لاتمييز. ولا اختلاففي معناها ولا ابتعاد. هذا ذلك، وذلك هذا. فأيّما مفكّرٍ اصطنع الحيز فهو إنمايريد، أو يجب أن يريد، إلى معنى المكان. وأيّما ناقد استعمل المكان في كتابته، أوتفكيره، فهو إنما يريد غالباً إلى الحيز. وهذا أمر لانتفق معه عليه.
وإذا كان علماء الكلام كانوا يرونأنّ الحيز، أو المكان (ما دام الفلاسفة العرب المسلمون، فيما يبدو، لم يميزواالمكان من الحيز، ولا الحيز من المكان بدقّة معرفية صارمة) هو "الفراغ" المتوهّمالذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده"(8)؛ فإننا نلاحظ على هذا التعريف:
1-أنهم يصطنعون "الفراغ المتوهم"،وكأنهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك إلى أنّ الحيز لا يَرِدُ على الحقيقة؛ وإنما يَرِدُعلى التخيّل والتوهُّم. وكأنه ينشأ عن هذا أنّ هذا التعريف أليق بالحيز كما نتمثلهنحن في الأدب، منه بالفلسفة التي تنشد الدقة والإحاطة والصرامة والشمول الذي لايغادر شيئاً ولا يتّركه إلاّ قرّره وناقشه.
2-إنّ هذا "الفراغ المتوهّم" يجب أنيضادّه "الفراغ المدرَك". فكان الأولى، في تصورنا، اصطناع هذا المصطلح الموصوف؛ إذكان لفظ التوهّم، في اللغة العربية، منصرفاً لمعاني الغلط، وسوء الإدراك، والإغراقفي السهو، والوقوع في التخيّل الشاحب أكثر مما هو منصرف إلى الدلالة والإدراكالدقيق (9).ولعلّ الآية على ذلك قول زهير:
فلأياً عرفْتُ الدارَ بعدتَوَهُّمِ*
|
حيث إن المعرفة والإدراك جاءا بعدمعاناة التوهّم، ومكابدة التخيّل. وإذاً، فإنّا لا ندري كيف يَلْبِسُ هؤلاءالمتكلمون التوهّم بالتحقّق، ومجرّد التخيّل بالإدراك الصارم؟
3-أنهم يربطون هيئة هذا الفراغ، وهوغير الحيز لدينا (إذ ما أكثر من يكون الحيز في تمثّلنا عامراً لا خاوياً، وممتلئاًلا فارغاً) بوجود جسم ما يشغله ويملؤه. فكأنّ المكان لديهم كلّ حيز مشغول بجسممتشِكّل فيه، ماثلٍ فوق سطحه.
على حين أنّ المكان لدى الحكماءالإشراقيين يتمثلونه "بعداً منقسماً في جميع الجهات، مساوياً للبعد الذي في الجسم،بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، سارياً فيه بكلّيّته"(10).
ولا نحسب أنّ هذا التعريف يبتعدكثيراً في إجماله عن تعريف المتكلّمين؛ وإنما يختلف عن تعريفهم في تفصيله؛ إذ تصوّرالإشراقيين للمكان أنه يتساوى، ضرورة، بَعْدُهُ بالبُعْد الذي في الجسم. فكأنّالمكان لا تتجسّد كينونته إلاّ بالكائن فيه؛ فتساوي بُعْد المكان بالبعد الكائن فيهلا يعني إلاّ بعض ذلك.
والحق أَنّ هَذا التعريف لا يكاديختلف عن التعريف الشائع في الفلسفة العامة (11)؛ وإنما المزعج في تمثّل الفلاسفةالمسلمين هو عدم مَيْزِهِمُ المكان (lieu) من الحيز (espace) والحيز من المكان؛ معأنهما مفهومان مختلفان في مقررات الفلسفة العامة؛ إذ كلّ منهما يذكر في بابه، لا فيباب الآخر (12).
من أجل ذلك لا نحسبنا مغالطين حينكنا زعمنا أنّ المفكرين العرب بعامة، والمحدثين منهم بخاصة، لا يكادون يَميزونالمكان من الحيز، ولا الحيز من المكان، ولا المكان من المحل، الذي قرر فيه جميلصليبا ما قرر حين كتب: "المكان الموضع، وجمعه أمكنة، وهو المحل (lieu) المحدد الذييشغله الجسم" (13). بينما نلفيه يطلق لفظ "lieu" الفرنسي، في موطن آخر، على الأين،في معجمه (14): فبأيّ القولين أو الأقوال نعمل؟ وما هذا الخلط المبين؟
إنّ الحيز، لدينا، لا يرتبط وجودهولا مثوله، ضرورة، بالجسم الذي يشغله؛ لأننا نعدّ هذا الجسم الذي يشغله في حد ذاتهحيزاً قائماً بنفسه فيه؛ فالشجرة لدينا من حيث هي هيئة نباتيّة تتكوّن من جذعوأغصان وفروع وأوراق: حيز يشغل مكاناً (وهذا المكان يشغل فضاء، وهذا الفضاء يشغلكوناً) إلاّ أنّ المكان لايكون إلاّ بهذا الحيز. فالحيز متفرّع، في تصوّرنا، عنالمكان. فالمكان أصل ثابت، قائمٌ، باقٍ، لأنه مستقرّ الكينونة ذاتها، ولأنه موئلللكائنات من حيث هي لا تستطيع أن تُفْلِتَ من قبضته: صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو غيرعاقلة. فكما أن المَقام (بفتح الميم) مستقرّ للقيام من حيث هو هيئة حيزية، فإنّالمكان مستقرّ للكيان من حيث هو؛ فلا كينونة إلا بمكان. ولا مكان إلاّ بكينونة. فهما متلازمان لا يفترقان. بينما الحيز مجرد هيئة تعرض عبر المكان ذاته. من أجل ذلكألفينا أرسطوطاليس يقرر، منذ القدم، أنّ المكان لا يتحرك، وأنه محيط بالشيء الذيفيه، وأنه ليس بجزء مما يحتويه (15). وإذا كان المكان ثابتاً باقياً، فإنّ الحيزعارض ناشئ طارئٌ فانٍ؛ وهو قابل للتغير والتبدل، والتمظهر والتشكّل.
خذ لذلك مثلاً آخر الشخصية الروائيةحين تتنقّل في حيزها من نقطة (1)، ثم تتوقف إما للاضطرار، وإما على سبيل الاختيارفي نقطة (ب)، لتنتهي إلى نقطة (ج) حيث تقضي حاجتها، ثم تعود إلى نقطة (ا)، ولكن عنطريق نقطة(د)، لا عن طريق نقطة (ب): فإننا نعدّ حركتها هذه حيزاً متحركاً عبرالمكان.
فنحن إذاً، وبنعمة الله، نختلف معالفلاسفة المسلمين الذين يربطون وجود المكان بالجسم الذي يشغله، فالمكان لديهم غائبومنعدم خارج شغل الجسم إياه. ذلك ما فهمناه من مضمون تعريفهم ومنطوقه أيضاً. كمانختلف مع النقاد العرب المعاصرين الذي لا نراهم يتعاملون، في الغالب، إلاّ معالمكان الجغرافيّ (في التحليلات المُنْجَزَةِ حول السرديات مثلاً). أما حينيَمْرُقون به عن هذا الإطار، ويتناولون به الشعر تحت مصطلح "الفضاء"، فإننا لمنُلْفِهِمِ، وذلك في حدود إلمامنا بكتاباتهم التي يكتبون، تناولوا مفهوم الفضاء، منحيث هو مصطلح كما أرادوه أن يكون، فعرّفوه، وبلوروا دلالته انطلاقاً من الدلالةالمعجمية إلى الدلالة المُصْطلحاتيّة.
إن الحيز، كما نتصوره نحن، هو هيئةتتخذ لها أشكالاً مختلفة لا نهاية لتمثّلها: فتعرض لنا ناتئة ومقَعَّرةً، ومسطّحة،ومستقيمة، ومعوّجة، وعريضة، وطويلة؛ كما تمْثُلُ لنا في صورة خطوط، وأبعاد، وأحجام،وأوزان، دون أن ترتبط، بالضرورة، بما، أو بِمَنْ، فيها.
ذلك، وأنّ في البادية العربيّة، أوفي الحيز العاري، أو في الحيز المفترض كذلك: قد نلفي كلّ شجرة ذات دلالة، وكلّ نبتةذا معنى، وكلّ صخرة ذات شأن، وكلّ منعطف طريق ذا مغزى، وكلّ عين ماء ذات خبر، وكلّكثيب رمل ذا خطر.... حيث الحيز، ضمن ذلك الفضاء المنساح، هناك، أساس العلاقات بينالناس، وأساس التفكير في معنى الوجود، بل أساس العبادات والازدلاف إلىالله...
ذلك بأنّ العرب كانوا يثوون بأرضبراح، فلم يكن يحول بينهم وبين تلك الأحياز العارية في كثير منها، حائل، ولم يكنيحجز بينهم وبين تلك الأمكنة المتنوعة المناظر حاجز: فكانت ألصق بقلوبهم وأعلقبنفوسهم، وأمثل في أبصارهم وبصائرهم فلا تكاد تمحّي منها أو تزول. ذلك إلى ما كانوايحيونه فيها، أو في بعضها على الأقلّ، من جميل الذكريات، وما كانوا يقضّونه فيها منمعسول اللحظات...
وللأحياز في هذه المعلّقات السبعحقّ علينا أن نصنّفها، انطلاقاً من قراءتها، لنرى ما كان يربطها، وما كان يناسببينها: إذ هناك أحياز دالّة على المياه، وأخراة دالّة على الطرقات والمسالك، كمانلفي أحيازاً دالّة على الروابي والجبال، وأخراة دالّة على التلدات وكثبانالرمال....
وليس غريباً أن يكون للحيز شأن أهمّفي حياة أولئك الأعراب البادين من الحيز لدينا نحن اليوم الذي أصبحوا يتنقّلون فيالمدن الكبرى بباطن الأرض، ويسافرون بين القارات، وربما بين المدن المتقاربة أوالمتباعدة، في الجوّ..... فلم يعد للحيز، كما نرى، في حياتنا الروحية والعاطفيةوالاجتماعية ما كان له في أخيلة أولئك الشعراء وعواطفهم الجياشة، ومشاعرهمالفياضة.
وعلى الرغم من أنّ شعراء المعلّقاتكثيراً ماكانوا يذكرون أماكن جغرافيّة لا تبرح معروفة إلى يومنا هذا مثل الحجاز،والعراق، ودمشق وقاصرين، واليمامة، وبعلبكّ، ونجد.....، وأماكن مقدّسة في الجاهليّةوالإسلام مثل البيت الحرام، وأماكن مقدّسة في الجاهلية فقط إذ ترتبط بالطقوسالوثنيّة مثل صنم دوار: فإنّ الأغلبيّة الغالبة من الأمكنة الأخراة تنضوي تحت الحيزالشعريّ المحض.
ولقد بلغ عدد هذه الأمكنة فيالمعلّقات زهاء ثلاثة ومائة موزّعة خمسة وعشرين حيزاً في معلّقة امرئ القيس وحدها،وثلاثة وعشرين في معلّقة الحارث بن حلّزة، وتسعة عشر لدى لبيد، واثني عشر لدى زهير،وعشرة لدى عنترة وعمرو بن كلثوم، بينما لم يرد في معلّقة طرفة إلاّ أربعة أحيازفحسب.
ذلك، وأنّا لاحظنا أنّ هناك أحيازاًيشترك في ذكرها أكثر من معلقاتيّ واحد، مثل: وجرة: التي يشترك في ذكرها امرؤ القيسولبيد،
وتوضح: الذي يشترك في ذكره امرؤالقيس ولبيد أيضاً.
والقنان: الذي يشترك في ذكره امرؤالقيس وزهير بن أبي سلمى (وورد لدى زهير مرتين اثنتين).
والمتثلّم: الذي ورد ذكره لدى زهيروعنترة.
وبرقة: التي وردت في معلّقتي الحارثبن حلّزة وطرفة بن العبد.
وخزازى: الذي اشترك في ذكرها، أوذكره، الحارث بن حلّزة وعمرو بن كلثوم.
فهؤلاء المعلّقاتيّون يشتركون فيذكر أمكنة بأعيانها؛ ممّا يدلّ على وحدة الثقافة، ووحدة الخيال؛ كما يشتركون في ذكرأحياز كثيرة تختلف من معلّقاتيٍّ إلى آخر، إلاّ أنّ الاشتراك في ذكرها، والحرص علىسردها: قد لايعني إلاّ شيئاً واحداً، من منظورنا الخاصّ على الأقلّ؛ وهو وحدةالخيال -كما أسلفنا القال- لديهم، ووحدة التقاليد الشعرية في ممارساتهم؛ وإلاّفَلِمَ لم يَشُذَّ واحدٌ منهم عن البكاء على الديار، وعن النسيب بالنساء؟ وإذا كانعالي سرحان القرشي يذهب إلى انعدام وحدة الرؤية الفنيّة في المعلّقات السبع (16)؛فإننا لا نذهب مذهبة، ولا نتقبّل رأيه الذي تدلّ بعض مقررات مقالته على ضده، وذلكحين يقرر، ضمنيّاً، وحدة الرؤية الفنية في المعلّقات السبع من حيث يقرر منطوقاًمغايرتها واختلافها إذ يقول:
"ولو نظرنا إلى كلّ قصيدة منالمعلّقات على حدة، لوجدنا لكلّ معلّقة بناء مغايراً لبناء المعلّقة الأخرى، حتىوأن تشابهت في بعض الجزئيّات مع المعلّقات الأخرى" (17).
وإنّا لنختلف معه، لأنّنا كنّاحاولنا إثبات الوحدة الفنيّة والبنوية (ولا نقول البنائيّة لأنّ البناء عامّ،والبنية خاصة. والغربيّون يَمِيزُونَ هذا من ذلك مَيْزاً كبيراً....) في المقالةالتي وقفناها، ضمن هذا البحث، على بنية الطلليّات المعلّقاتيّة....
ولا ينبغي أن يُنْظَرَ إلى مسألةاختلاف بنية المعلّقات نظرة سطحيّة، أو عجلى؛ إذ لو جئنا نتابع اللغة الفنيّة، أوحتى اللغة في مستواها المعجميّ البَحْت؛ لألفينا أولاء المعلقاتيين يلتقون التقاءعجيباً في اصطناع اللغة الشعرية (18)، وفي لغة الوصف، وفي لغة الألوان، وفي الإيلاعالشديد بذكر مواطن الماء
(وقد أومأ إلى بعض الأستاذ سرحان نفسه، وإن لم يذكرهفي السياق الذي نودّ نحن ذكره فيه)، وفي الكَلَف الشديد بذكر الأحياز المتفِقَةِالأسامي، أو المتشابهتها، وفي الإيقاع الشعريّ (أربع معلّقات وردت على إيقاع الطويلمثلاً)(19). يضاف إلى كلّ ذلك المضمون الحضاريّ العامّ: الطلل -المرأة -الناقة- الفرس- البقرة الوحشيّة- الظبي والرئم- النعامة....
فلا معلّقاتيّ يختلف عن الآخر إلاّبما حبته به الطبيعة من تفرّد ذاتيّ ضيّق، أمّا البناء الفنيّ العامّ للقصيدةالجاهليّة بعامة، والقصيدة المعلّقة بخاصة؛ فإنه كان متشابهاً متقارباً، يكاد يغترفمن ثقافة شعريّة واحدة، ويكاد يصف بيئة اجتماعية، وجغرافية أيضاً، واحدة. فقد كانت،إذن، مواقفهم، وأحداثهم، ومشاهدهم، وصورهم، ومعانيهم، وتعابيرهم، وتجاربهم،وتقاليدهم، ورؤيتهم إلى العالم، وإدراكهم للكون: تَتَشاكَهُ تشَاكُهاً يوحي بصدورهذا الأدب عن عقل متّحد، وفكر جماعيّ ذي مصدر متشابه. ذلك بأنّ المعاني والصوروالتعابير والتراكيب تبدو أناشيد جماعيّة "أبدعها عقل الأمة، ونظمها ضميرها" (20).
إنّ المعلّقات تنهض على بنيةثلاثيّة، كما كنّا عالجنا ذلك بتفصيل في المقالة السابقة، تتمثّل خصوصاً في الطلل،والمرأة، ثم: إمّا في الناقة، وأما في الفرس، وأما في مضمون آخر: فهناك إذن: ا+ب: وهما عنصران -ربما- لايخطئان حتّى معلّقة عمرو بن كلثوم التي استثناها الأستاذالقرشي.... فهما إذن عنصران ثابتان، ثم ترى الشاعر المعلقاتي يثّلث بمضون قد يتفقفيه مع سَوائِهِ (الناقة: طرفة- لبيد- عنترة، والفرس: امرؤ القيس- عنترة- وربماعمرو بن كلثوم، والحرب: زهير- الحارث بن حلّزة- عمرو بن كلثوم)....
وأمّا مسألة شذوذ عمرو بن كلثوم فيأنه لم يذكر الطلل، فإننا نعتقد أنّ هذا الاستثناء يقوم إذا تابعنا الترتيب الواردلدى الزوزنيّ لهذه المعلّقة التي نعتقد أنّ ترتيبها يحتاج إلى إعادة ترتيب.... ذلكبأنّا نعتقد أن المطلع الحقيقيّ لهذه المعلّقة هو:
قفي قبل التفرق ياظعينا
|
|
نُخَبِّرْك الِيقيناوتُخْبِرينَا
|
قفي نسألْكِ هل أحدثْتِصَرْماً
|
|
لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنْتِالأَمينا؟
|
ليأتي من بعدذلك:
ألا هُبّي بصحنِكِفاصْبَحينا
|
|
ولا تُبْقي خُمورالأندرينا
|
ليأتي:
وأنّا سوف تدركناالمَنايا
|
|
مقدّرةً لناومُقَدَّرينَا
|
قبل:
بيوم كريهة ضرباوطعنا
|
|
أقَرَّ به مواليكالعيونا
|
فتكون بنيةُ هذه المعلّقة قائمةًعلى التزام الوقوف على الطلل مضموناً يدلّ عليه منطوقه:
قفي قبل التفرّق ياظعينا
|
|
نُخَبِّركِ اليقيناوتُخبْرِينا
|
فهذه المرأة كانت ظاعنة لا مستقرّة،أزمعت الفراق، وآذنته بالبين، فتحمّلت في خدرها، عن حيّها.... فامرؤ القيس يتحدث عنالبين:
كأنّي غداة البين يومتحملّوا
|
|
لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُحنظل
|
وعمرو بن كلثوم يتحدث عن وشك هذاالبين:
لو شك البين أم خنتِالأمينا؟
|
يوم ركبت الحبيبة ناقتها، وأزمعتالتّظعان، وهمّت بالتَّزيالِ: فأين البَوْنُ، في هذا البين؟ شاعر جعل البين فيالماضي فسرد وحكى، وشاعر آخر جعله في الحاضر فتساءل واستخبر أحدهمايقول:
قفا نبك من ذكرى حبيبومنزل
|
وأحدهما الآخريقول:
الوقوف، والبين، والكشح، والمتن،وطول القامة، والساقان... فأين البَوْنُ، تارة أخراة؟ وعلى الرغم من أنّ الناسسيعترضون على هذا الترتيب الجديد الذي اقترحنا إجراءه على معلّقة عمرو بن كلثوم،وأن المطلع الذي جاءت عليه لدى الأقدمين هو المطلع الصحيح؛ فإننا لا نرى حلاًّ لهذهالمسألة الفنية -إلحاق معلّقة عمرو بن كلثوم بمجموعة المعلّقات- غير إجراء هذاالتغيير على ترتيبها... ولعلّ حجتنا في ذلك أنّ كافّة المعلّقاتيّين ممّن تحدثوا عنالخمر، مثل عنترة وطرفة، لم يبدأوا معلّقاتهم بالحديث عن الخمر، وإنما بدأوهابالحديث عن الطلل والمرأة، فكيف يشذّ عنهم عمرو بن كلثوم، والحال أنّ شعره الذياقترحناه مطلعاً لمعلّقته وارد فيها؟ ألا يكون ذلك مجرد اضطراب وقع في الترتيب؟وإلاّ فإنّ هذا الشعر أسهل ألفاظاً من أن يكون جاهليّاً!....
وأيّاً كان الشأن، فإنّ الثقافةالشعريّة واحدة لدى المعلّقاتين، حتى فيما قد يبدو لنا مختلفاً، فلا يمكن فهممعلقّة امرئ القيس إِلاّ في صَبِّهَا في الخضمّ الشعريّ المعلّقاتيّ العامّ؛ كما لايمكن فهم زهير في تأملاته إلاّ بقرن شعره ببعض شعر طرفة، ولا فهم معلّقة الحارث بنحلّزة إلاّ في الإطار التاريخي والقَبَليّ للسياق الذي وردتْ فيه معلقة عمرو بنكلثوم، وهلمّ جرا...
فالمعلّقات مدرسة شعريّة، ولا ينبغيأن تُدْرَسَ إلاّ ضمن هذا المنظور الفنيّ، وضمن وحدة التصور لدى المعلقّاتيّين؛ إذكانت تضطرب في مُضْطَربٍ حيزيّ واحد، وتَدْرُجُ ضِمْنَ وحدةٍ زمنيةٍ واحدة أيضاً. فمعظم هذه المعلّقات قيل في قرن واحد، وفي بلاد العرب، فكيف يمكنُ مدارَسَتُهامنفصلة عن بعضها بعض، والتماس مواطن الاختلاف بينها على أساس تفرّدٍ غير واردٍ،وتميّز غيرِ ماثلٍ. إنّ كلّ ما في الأمر أنّ المعلّقاتيّ قد يختلف عن الآخر فيتفاصيل بعض المضامين المتناولة كتفرّد امرئ القيس بوصف الليل، وتفرّد لبيد بوصفالبقرة الوحشية... ولكنّ الاختلاف الفنيّ لا ينبغي أن يُلْتَمَسَ في مثل هذهالتفاصيل المضمونيّة، ولكن يلتمس في مستوى البنية العامة للمعلّقة التي تظلّ، فيرأينا، هي هي: لدى هؤلاء مثل لدى أولئك، في معظم تماثلاتها الفنية.... وفيما يلينحاول متابعة الأحياز وأنواعها التي وردت في المعلقات.
أولاً: الحيز المائل:
لقد صادفتْنا أحياز كثيرة تضطرب فيالماء- كما سيستبين ذلك بالتفصيل في المقالة التالية من هذا البحث- أو تحيل علىماء، وتركض في سائل، أو توحي بمثولها فيما له دلالة على هذا السائل. ونحن حين ندارسالحيز لا نريد أن نحلّله على ظاهره، ونمضي عنه عِجَالاً؛ ولكننا نريد أن نتوقف لديهتوقّفا، ونسائله مُساءَلَةً، ونَلوُصه على ما رَسَمْنا نحن في ذهننا من تأويليّةالقراءة الأدبيّة التي هي حقّ أدبيّ مشروع للناقد إلى يوم القيامة.
فنحن حين نقرأ، كما يذهب إلى بعضذلك امبرتوايكو(21)، لا ينبغي، وبالضرورة الحتميّة، أن نهتدي السبيلَ إلى ما كانيريد إليه الناصّ من نصّه؛ فإنما الذي يزعم شيئاً من ذلك هو، حتماً، مكابِرٌ أومغالط؛ ولكننا، إذن، نقرأ النص على أساس ما نريده له نَحْن... بيد أنّ ذلك لا ينبغيله أن يكون خارج سياقه، ولا بعيداً عن إطار مضمونه...
ولولا أن لكلّ شيء حدّاً، وما جاوزالحدّ انقلب إلى سوء الضدّ؛ لَكُنَّا أَقدمنا على إِملاء مجلّد كامل في أنواع الحيزفي المعلّقات... ومن أجل أن لا نقع في بعض ذلك، سنجتزئ بالتوقّف لدى نَماذِجَقليلةٍ من أصناف هذا الحيز لِنَذَرَ لِمَنْ شاء أن ينسج على نهجنا المجالمفتوحاً...
* ولا سيّما يوم بدارةجلجل:
لقد ذهب الأقدمون، ومنهم ابنقتيبة(22)، والقرشي(23) إلى أنّ دارة جلجل غدير ماء كان يقع"بين شعبى وبين حسلات،وبين وادي المياه، وبين البردان -وهي دار الضباب- ممّا يواجه نخيل بني فزارة... وفيكتاب جزيرة العرب للأصمعي: دارة جلجل من منازل حجر الكندي بنجد" (24). ويبدو أنّالناس كانوا يستحمّون فيه، وكانوا، فيما يبدو، يوردون إبلهم وأنعامهم فيه. وربماكانت العذارى يُيَمِمّنَه لينغمسن فيه، ويستمتعن بمائه تحت وهج شمس نجد، وَكُلْبةحرارتها، وأوج حمارتّها.
ونحن لم نر حكاية أدنى إلى المشاهدالسينمائيّة منها بالحقيقة من حكاية دارة جلجل. فهي كما رواها الفرزدق عن جده -وهيالرواية الوحيدة التي ترددت في المصادر القديمة(25)- لا تخلو من تناقض:
فالأولى: كيف يحقّ لامرئ القيس، هذاالفتى الذي كان موصوفاً، أو كان يصف نفسه، بالإباحيّة والمجون أن يفضح سرباً منحسناوات الحيّ فيهِنَّ ابنةُ عمه فاطمة؟ وهل كان العربيّ يسمح بأن يهان شرفه إلىهذا الحدّ؟ وهل قتل عمرو بن كلثوم عمرو بن هند إِلاّ لأَنَّ أمه أرادَتْ أن تصطنعليلى-أم عمرو بن كلثوم- حين التمست منها مناولتها الطبق(26)؟ فكيف يجرؤ العربيّ علىقتل ملك همام من أجل هذه الحادثة، ولا يقتل حين تعرّى أخته أو حليلته أو ابنتهاغتصاباً، وتهان في شرفها، والشمس متوهّجة، والنهار في ضحاه!؟
أَيْما ما قد يعترض به علينامُعْتَرِضٌ -ولو على وجه الافتراض والتوقع- من أنّ امرأ القيس كان أميراً، ولم يكنأحد بقادر على أن يعرض له بسوء؛ فإننا نعترض عليه، كما اعْتُرِضَ علينا على سبيلالافتراض على الأقلّ، بأنّ إمارته لم تكن بقادرة على أن تشفع له في أن يفعل ذلك؛وأنّ إمارته، على كلّ حال، كانت نسبيّة، كما كانت ملكيّة أبيه على بني أسد نسبيةأيضاً؛ إذ لم يكن أبوه، في تمثّلنا، أكثر من شيخ قبيلة في حقيقة الأمر؛ وإلاّ فأينآثار مملكته، ومخلّفات حضارته؟ ثم من كان أعزّ نفراً، وأحدُّ شوْكاً، وأرفع قدراً: عمرو بن هند ملك الحيرة أم الملك الضلّيل؟
وإذن، فالضعف الأوّل يأتي إلى هذهالحكاية من هذه الناحية.
والثانية: كيف يتفرّد النساء هذاالتفرّد بالمسير فلا يخبر بشأنهنّ عبد، ولا تشي بأمرهنّ أمة:
يتخلّفن وجهاً كاملاً من النهار دونأن يقلق على مصيرهنّ رجالهنّ فيسألوا عنهنّ...؟
والثالثة: كيف تتحدث حكاية دارةجلجل عن العبيد الذين جمعوا الحطب، وأجّجوا النار، فكان امرؤ القيس"ينبذ إلى الخدممنذلك الكباب(المتّخذ من لحم المطيّة المذبوحة للعذارى) حتى شبعوا"(27)؟ وهل كانالشَّيءُّ للحِسَانِ، أم للإماء والغلمان؟ ثمّ كيف تسكت الحكاية و عن ذكر أيّ أنيسمن الرجال، لدى إِرادة انغماس الفتيات في ماء الغدير، ولدى إصرار امرئ القيس على أنلا يسلّم أياً منهنّ ملابسها إِلاّ إذا ما خرجت من ماء الغدير عارية، واستعرضتجسدها أمامه مقبلة ومدبرة، وكما ولدتها أمها!.. ثمّ فجأة يظهر العبيد حين يقررالشاعر نحر مطيّته للنساء؟ ألم يكن ظهور هؤلاء العبيد لمجرد غاية فنيّة، لا من أجلغاية واقعيّة حتّى تجنّب الحكاية امرأ القيس تكلّف جمع الحطب على أساس أنه سيّدأمير، وتجنّب، في الوقت ذاته، أولئك النساء اللواتي كنّ يصطحبن فاطمة ابنة عمّ امرئالقيس على أساس أنهنّ سيدات عقيلات، لأنهنّ رفيقات ابنة عمّ الأمير المزعوم؟ (وإنكنّا ألفينا رواية ابن قتيبة تومئ إلى وجود عبيد كانوا مع النساء، ولكن كيف ظلّ دورالعبيد منعدماً على هذا النحو....؟)
والرابعة:إنّ مطلع الحكاية يوحيبأنّ أولئك النساء كنّ مسافرات إلى حيّ آخر من ذلك الوجه من الأرض، على حين أنّآخرها يوحي بأنهنّ أُبْنَ إلى حيّهنّ، وأن سفرهنّ لم يتمّ، وأن الرحلة لم تحدث،وأنهنّ لم يعدن إلى حيّهنّ حتى جَنَّهُنَّ، والشاعِرَ، الليلَ(27): فما هذا الخلطالعجيب، والتناقض المريب؟
والأخراة، إنّ أبا زيد محمد بن أبيالخطاب القرشيّ يذهب إلى أنّ صاحبة دارة جلجل هي فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس(28)،بينما يذهب ابن قتيبة إلى أنها فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة ابن عامر العذرية(29)،على حين أنه كان يعدّ عنيزة"هي صاحبة دارة جلجل" (30). وإنما يدلّ هذا الخلط، وسوءالضبط، على شكّ في الصحّة، وريبة في الرواية: لذهاب الرجال، وانقطاع الزمان، وخيانةالذاكرة، وفساد الرواية.
وعلى أننا لا نريد أن نذهب إلى أبعدالحدود في البرهنة على أدبيّة هذه الحكاية وخياليّتها، وأنّ مسألة دارة جلجل مجردحكاية جميلة إن وقع بعضها على نحو ما، فإنّ باقي ما ذكر من تفاصيلها لا يمكن لعاقلأن يصدّقه بِجَذاميره، ولا أن يتقبّله بحذافيره.
ونعمد الآن إلى تحليل بعض هذا الحيزالمائيّ، ليس على أساس ما نعتقد من أسطوريتّه، ولكن على أساس ما اعتقد الناس من صدقواقعيّته. والحق أننا، بعدُ، شَرَعْنَا في بعض هذا التحليل حين حاولنا تناولالخلفيّة التاريخيّة، والأسس التاريخانِيّة، لا التاريخيّة، لهذه الحكاية الجميلةوحيزها البديع.
1. إننا نلاحظ أنّ النساء اللائيتعاملن مع هذا الحيز المائيّ الجميل لم يكنّ عجاِئَز شُمْطاً، ولا هِرَماتٍشُعْثاً؛ ولكنّهنّ كنّ حِساناً رائعاتِ الجمال، باديات الدلال، نحيلات الخصور،طويلات القدود، سوداوات العيون، مشرقات الثغور، منسدلات الشعور.
2. إنهنّ كنّ مخدومات منعَّماتٍ،وثريّات مُوسِرَاتٍ، وإلى بعض ذلك أومأتْ رواية ابن قتيبة إِذْ ذكرت أنّ أولاءالفتيات"نزلن في الغدير، ونحّين العبيد، ثم تجردّن فوقعن فيه"(31).
3. لعل من الحقّ لنا أن نتمثّل هذاالغدير فنتصوره بمثابة مسبح صافٍ ماؤُه، أزرق لونه، وأنه، من أجل ذلك، لم يكحِمْئاً ولا مَوْحَلاً: تسوخ فيه الأقدام، ويتحرّك الماءُ والطين فيه فتتّسخ لهالأجساد إذا غطست... بل كان إذن حيزاً مائِياً غيرَ ذلك شأناً؛ وإلاّ لَمَا أمكنللنساء السَّبْحُ فيه، والاستمتاع بمائه.
4. ولنا أن نتمثل ما كان يحيط بهذاالحيز المائيّ من أشجار، ونباتات؛ وما كان يكيّف به الهواء الصادر عنه، والذي يفترضأنه كان رطيباً. ولنا أن نتمثّل ما كان يجاور هذا الغدير أيضاً، وهو حيز مقعّرحتماً؛ وأنه كان مرتفعاً عنه قليلاً أو كثيراً. ولنا أن نتمثّل الطرقاتوالثَّنِيَّاتِ التي كانت تُفضي إليه، أو تُفْضي منه. ولنا أن نتمثّل أسراب النساءالأخريات، في غير ذلك اليوم الذي حدث فيه للشاعر ما حدث مع العذارى، واللائي كنّييمّمنه للتنزه والاستحمام؛ ولنا أن نتمثّل الإماء اللواتي كنّ يقصدنه ليغسلن علىضفافه الملابس والفرش، وكل ما يغسل وينظّف...
5. إنّ أيُّ مدفع للماء، غديراً كانأمْ بِئْراً، أم نَهْراً، أم عَيْناً، أم ساقية، أم سربّا: يكون مَظَنَّةً للحياةالناعمة، والخصب الضافي، والعمران القائم. فكأنّ دارة جلجل كانت هي الغدير الذي كانيستقي منه الحَيُّ لإِرْواءِ الأنعام، وغالباً ما كانوا يشربون هم أيضاً منه؛ وكلّما في الأمر أنهم كانوا يُمْهِلُوَن الجِرارَ حتى ترْسُب حَمْأَتُها، ويَقَرُّ فيالقَعْرَةِ طِينُها، ليصْفُوَ الماءُ وبَرِقَّ؛ فيشرَبوه مَرِيئاً.
فلم يكن هذا الحيز، إذن، منقطعاً عنالحياة الاجتماعية والحضاريّة للحيّ الذي كانت العذارى تَقْطُنُهُ؛ وإِنما كانتحكاية العُرْي مجرَّدَ مظهرٍ شعريّ غذاه الخيال الشعبيّ المكبوت فسار بين الناس علىما أراد ذلك الخيال؛ فأضاف إليه ما لم يكن فيه، حتى يتلاءم مع ما كانوا يودّون أنيكون الأمر عليه: فتسير به ركبانهم، وتتحدث به وِلْدانُهم. ولنلاحظْ أن حكايةالعُرْي تفرّد بذكرها الفرزدق رواية عن جده، وأنها دوّنت، لأول مرة، بعد منتصفالقرن الثاني الهجري؛ فكأنها دوّنت بعد عهد امرئ القيس بأكثر من قرنيناثنين.
ولا يذر امرؤ القيس، في حقيقةالأمر، شيئاً عن هذا المشهد الذي لم يكن يمنعه من ذكره لادين وقد كان وثنيّاً، ولاخوف وقد كان أميراً عزيزاً، ولا مروءة وقد كان، فيما تزعم الرواة، عاهراًزانياً(32). فما منعه من أن يفصّل القول في حادثة في هذا الحيز المائيّ الجميل،فيذكر هو ما ذكرت الرواة؟ وهل كان عَييّاً بَكِيّاً غيرَ مبينٍ،. وهو الشاعرالعملاق، والفصيح المِهْذَار، واللسِنُ المِكْثار؟ وإِنما اجتزأ هو بذكر عقرهمطّيته للعذارى، ولم يقل أكثر من ذلك، ولم يتحدّث عن العُرْي لا تَكْنيَةً ولاتصريحاً... أفلا تكون مسألة العُرْي حكايةً لفقها الرواة؟
6. وإذا سلّمنا بصحّة هذه الحكاية،وما علينا أن نكون سذَّجاً؛ فإنّ هذا الحيّز يغتدى عجيباً مثيراً: غديرَ ماءٍ مكتظّبأجسام الفتيات العاريات، وفتىً قريباً منهنّ في اليابسة، جاثِماً على ملابسهنّ وهوينظر إلى عوراتهنّ المغلّظة في شَبَقٍ شديد، ثمّ يستحيل المشهد العاري العامّ إلىمشاهِدِ عُرْيٍ جُزْئِيَّةٍ تمثل في ثُنائِيَّةِ الحركة التي تُحْدثها الفتاة وهيتخرج من الغدير عارية وحركة الرجل وهو يسلّمها ثيابّها، أو أنها هي نفسها تنحني علىثيابها لتأخذها لتستر بها جسدها والفتى ينظر ويتلّهّى: لا هو يخاف، ولا هو يستحي،ولا هو يرعوي!.. إنه مشهد على ما فيه مِنْ فعل الاغتفاص والاغتصاب- من الوجهةالأخلاقية والوجهة القانونيّة أيضاً؛ فإِنه من الوجهة الخياليّة لو وقع في أدبالغرْب لكانوا ملأوا به الدنيا وأقعدوها، ولكانوا صوّروه ألف تصوير، ولكانوا أخرجوهفي تمثيلهم ألف إِخراج...
7. من غير الممكن أن لا نتمثّل فيوهمنا حيز هذا الغدير الذي كان مسبحاً لأولئك العذارى... ونحن، مع ذلك، لا نستطيع،ولو أردنا وأصرَرْنا، أن نتمثّل حيّزه على وجه الدقّة: لغياب النصوص، وانعدامالوثائق، وغفلة الرجال، وشحّ الأخبار. بيد أنّ ذلك ما كان ليحظرنا من أن نساءل ولكنعلى أن لا نجيب، وقد يُلْتَمَسُ الجواب في إحدى المساءلات نفسها: فكيف كان، إِذن،شكل هذا الغدير(33)؟ وكم كان حجم مساحته؟ وهل كان مستطيلاً، أو مربّعاً، أودائرياً، أو على شكل آخر من الأشكال الهندسيّة؟ وهل يمكن أن نفترض أنه لم يكنصغيراً جداً فلا يجاوز حجم شكل العين، ولا كبيراً جداً فيبلغ حجم البحيرة؟ ولكنّذلك كلّه لا يظاهرنا على أن نحدّد شكل هذا الغدير/ الأسطورة، ولا مساحته؛ وإنماتُتْرَكُ ملكة الإدراك، وطاقة التخيّل، مفتوحتين على كلّ احتمال، وتحت كل تأويل. فالقراءة الحيزيّة، من هذا المنظور بالذات، يجب أن تظلّ مفتوحة...
8. وعلينا أن نتمثل وجهاً آخر لهذاالحيز المائيّ: وهو سطحه حين تشرق عليه الشمس صباحاً، وسطحه حين توشك أن تغرب عنهمساء، وحين يداعبه النسيم الرُّخاءُ، وحين تعصف عليه السافِيَات... فسطحه تراهيتغير ويتشكل ويتبدل تبعاً لطبيعة الشمس، وشكل مائه يتغيّر تبعاً لحركة النسيمالعليل فيتحرك السطح قليلاً قليلاً، أو لعصف السوافي فيتحرك السطح بعنف واغتفاصشديدين؛ فتراه متخذاً له تموّجات تحددها الاتجاهات الأربعة-المفترضة- للرياحالعاصفة. فإن كانت الريح إنما تهبّ من جهات مختلفة، وهي التي تسميّها العربالمتناوِحَة، اتّخذ هذا الحيز المائيّ له شكلاً آخر...
9. ومن حقّنا أن نتساءل-وما لنا لانتساءل؟- عن أشكال ضفاف هذا الغدير، فتبعاً لهذه الأشكال، تتحدّد الأحياز التي تحيطبه. ونحن نفترض أن تكون جهة واحدة من هذه الضفاف، على الأقلّ، أعلى من الجهاتالأخرى، وإلاّ فمن أين كانت هذه الأمواه تتجمع حتى تشكّل غديراً صالحاً لأن يسبحفيه الناس؟
وقد كِلفَتْ معلقة امرئ القيس بذكرالأحياز المائيّة كما نلاحظ ذلك في المجازات التالية:
- على قطن بالشيم أيمن صَوْبِهِ(أيمطره)
- كأنّ مكاكيّ الجِوَاءِغُدّيَّةً(لا يمكن أن تتجمّع الطيْرُ إلاّ في جِوَاءٍ، أي وَادٍ، فيه ماءوخضرة...)
- ومرّ على القَنانِ مننَفَيَانِه(ممّا تطاير من قَطْرِ مائه)
- فأضحى يَسُحُّ الماءَ حولكُتَيْفَةٍ
- يكبّ على الأذقانِ دَوْحَالكَنَهْبِلِ(استطاع السيل الجارف أن يجتثَّ الدوح)
- كأنّ السِبْاع فيه غَرْقَىعَشيَّةً(لا يكون الغرَق إلاّ في الماء، والمقصود هنا: انغمارُها،وغطْسُها)
- كأنّ ثبيراً في عرانينِوبْلِهِ
كأنّ ذُرَى رِأْسِ المُجَيْمِرِغُدْوَةً
|
|
من السيل والأَغْثَاءِ فلْكَهُمغْزِلِ
|
- غذاها نَمِيرُ الماء غيرالمُحَلَّلِ...
وإذا كانت الخطّة التي رسمناها فيهذا العمل لا تسمح لنا بأن نحلّل هذه الأحياز المرقسيّة كلها، بعد أن كنّا توقّفنا،طويلاً، لدى حيز مائيّ واحد وهو غدير دارة جلجل؛ فإِنَّ ذلك، مع ذلك، ما كان ليحولبيننا وبين أن نلاحظ أنّ ما لا يقلّ عن تسعة أحياز أخراة، كما رأينا، تنطلق من ماء،أو تُحيل على ماء. ولكنْ غالباً ما كان الشأن ينصرف إلى أمواه المطر والسيول ومايضطرب حَوالَها...
ولا نحسب أنّ الإيلاعَ بوصف المطر،في معلّقة امرئ القيس، والتلذّذ بذكر الماء، والتبدّع في وصف السيول والأغثاء التيتجترفها: كان وارِداً على سبيل الاتفاق والعفويّة، ولكنّ ذلك كان، في منظورنا؛ لأنّالعرب كانوا يحبّون الماء، فكانوا يَدْعُوَن لِمَنْ يُحِبّون بالسقْيا، وكانوايتسقّطون مواطن المطر، ويتتبّعون مهاطله، ويرتعون النبات الذي ما كان لينبت إلاّبوابل المطر، أو طَلِّهِ... من أجل ذلك تصرفّوا في أسامي درجات هذا المطر فإذا هوغيث، ورَذاذ، وجَدىً، ووابِلُ، وطَلٌّ، ووَسْمِيٌّ، وَوَليٌّ(34)، وحَيَا، وسَحاب،وسَمَاء، وشُؤبْوب، وهلمّ جرا...
والآية على العناية الشديدة التيكان يوليها العربيّ للخصب والماء، أنّ الحياة نفسها، في اللغة العربية، وارادة فيتركيب الحَيَا والْحَيَاءِ، وهما المطر. فكأنّ الحياء يحيل على الحياة، وكأن الحياةتحيل على الحياء؛ لأن الحياة لا يجوز لها أن تقوم خارج كيان الماء...
******
وتصادفنا ظاهرة العناية بالصورالمائية، أي بالصور الشعريّة التي تضطرب أحداثها في الماء، أو حواله، في معلّقةلبيد أيضاً. وقد تردّدت هذه الصور المائيّة، أو المضطربة في الحيز المائيّ أوالسائل، سبع مرات على الأقلّ لدى لبيد.
والحقّ أنّنا وقعنا في حيرة منأمرنا حين أزمعنا على تحليل نموذج من الحيز المائيّ لدى لبيد، كما كنّا جئنا ذلكلدى امرئ القيس؛ إذ لولا صرامة متطلّبات المنهج المرسوم لكنّا قرأنا كلّ هذه الصورالمائية الفائقة الجمال في هذا الشعر اللبيديّ العذريّ... ولكن لا مناص من الاجتزاءبوقفة واحدة، حول نموذج واحد من الحيز المائيّ لدى لبيد؛ فَأَسَفاًوعُذْراً.
وجلا السُّيولُ عن الطلولِكأَنها
|
|
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهاأَقْلاَمُها
|
لقد كنّا حلّلنا حيز امرئ القيسالمتمثل في غدير دارة جلجل، فتوقفنا، طويلاً، لدى شكله وموقعه، وما قد يحيط به، وماقد يتأثر به، وما قد يؤثّر فيه، وما قد كان حَوالَهُ من النعمة والنعيم، والرغدوالجمال.
وأمّا هنا، ولدى لبيد، فالحيزالمائي لم يعد يرى في هذه الصور الحيزيّة؛ إذْ كان غدير دارة جلجل إنما كان ثمرة منثمرات تجمّع ماء المطر في حيز مقعّر بعينه؛ فإنّ السيول التي صنعت الحيز لدى لبيدلا نراها، ولكننا نرى آثارَها. لقد أصابت الأمطار هذا الحيز، وهذا الوجه من الأرضفخدّدت سَطْحَه، ووسَمَتْ وَجْهَه فبدا منه ما كان خافياً، وظهر ما كان مستتراًمتوارياً؛ ومن ذلكم تلك الطلول التي كانت الرمال نسجت عليها كُثباناً حتى وارَتْها؛فكان المارُّ ربما مَرَّها فاعتقد أنها كثبانٌ ليس تحتها بقايا حياةٍ، وأنقاضحضارة، وآثار مجتمع... حتى جاءت هذه السيول، فلم تبرح تُلِحّ عليها بالجَرْفِ حتىانجرفت، فبدت خدودٌ هنا، وخدود هناك، وبدا معها بقايا الديار المقفرة: أثافِيّهاونُؤيِها، ومَحَلِّها ومُقَامِها؛ فخَزِنَ لذلك غَوْلُها فِرجَامُها، كما حزن لذلكمَدافِعُ الرَّيَّانِ حين عُرّبَتْ رُسومها، فاغتدت كشكل الكتابة علىالصخور...
كانت الطلول مدفونة تحت الرمال،جاثمة تحت التراب، فكانت الذكريات معها مدفونةً، فكانت القلوب من حبّها مشحونة. لقدكانت مغبّرَّة، مُرَمَّلَة، مُتَرّبةً، لا تكاد تبدو للعين؛ فلمّا أصابتْها هذهالسيول الجارفة، والناشئة عن هذه الشآبيب الهاطلة؛ لمَّعَتْها فاغتدت كباقي الوشمفي ظاهر اليد، وأظهرتها فأمست كلوحة مكتوبة تجدد مَتْنَها أقلامُها بالكتابة فلاتمَّحِى ولا تزول...
1. نلاحظ أنّ لبيداً يصطنع، في هذهاللوحة الحيزيّة، وسيلةً حضاريّة لم تبرح تشعّ بالنور على الإنسانية، وهي الكتابة. فحيزه يمتزج بآثار المطر الهاتن المفضي إلى تمثّل الزَّبْر الماثل. فهل كانتالكتابة شائعةً على النحو الذي يذكره لبيد بحيث كانت الألواح، وكانت المكتوباتعليها، أم إنما كان يومئ إلى مجرد الحفريّات المنقوشة على الصخور والأحجار، والتييُفَترضُ أن لبيداً، وعامّةَ المستنيرين في عهود ما قبل الإسلام كانوا يلمّون بهافيتمثّلونها في أنفسهم على ما هون ما؟
إنّ منطوق بيت لبيد ومضمونه لايُبْعِدَان أيّاً من الاحتمالين الاثنين...
2. إنّ الصورة الحيزيّة المائيّةهنا، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، تقوم على خلفيّة حضاريّة لا يكاد التاريخ يعرفعنها إلاّ نُتفَاً قِلاَلاً، ونُبَذاً صِغَاراً. فالإشارة إلى الكتابة، هنا في بيتلبيد، إشارة دقيقة، وفي الوقت ذاته بريئة. فهي إذن توحي بوجود حضارة مكتوبة فيالجزيرة قبل الإسلام الذي لم يُبْعَثْ في مجتمع جاهل متخلّف كما قد يتصوّر بعضالمؤرخين، ولكنه بُعِثَ في مجتمع مستنير متعلم كانت حضارتُه الفّنية والجماليَّةُوالتقاليديّة تنهض على أسس وقيم مثل تمجيد الفصاحة، وتجويد الكلام، وقرْض الشعر،وارتجال الخُطَب، وارسال الحكم والأمثال وحماية المستجير(35). بل لقد كان فيقريش"بقايا من الحنيفيّة يتوارثونها عن إسماعيل صلى الله عليه وسلّم، منها حجُّالبيت الحرام وزيارته، والختان والغسل، والطلاق والعتق، وتحريم ذوات المحارمبالقرابة والرضاع والصهر" (36).
وقد زعم الزجّاجيّ أن"الحَنِيفَ فيالجاهليّة مَنْ كان يَحُجُّ البيت، ويغتسل من الجنابة، ويختتن" (37).
3. إنّ الصورة الشعريّة، في هذاالبيت الَّلبِيدِيّ، تنهض على حيز معلَّقّ في كَتِفِ جبل، حيث السيل حرْبٌ للمكانالعالي؛ كما يعبّر أبو تمّام. فَلِعُلُوّ هذا الحيز، وحَزْنه، واتسامه بالارتفاع: يَسُرَ على السيل أن يعرِّيَهُ من ترابه، ويجرّده من رماله، فيتخدّد ويتجرّد،ويبدوَ ما كان منه متوارياً؛ فيغتدِيَ ظاهراً بادِياً. فلو كان هذا الحيز مقعَّراًأو مسطّحاً ممتدّاً على وجه من الأرض سهل، لما استطاع السيل أن يعرّيه؛ بل لكانتأغثاؤُه زادته انغماراً فوق انغمار: فلا تبدو الطلول، ولا تتعرّىالرسوم.
4. نؤكّد ما كنّا أومأنا إليه آنفاًمن أننا، هنا، إنما نحن بصدد ملاحظة الحيز بعد حدوث فعل السيول؛ فهو حيزٌ مائيٌّباعتبار العلاقة المفعوليّة التي تعرض لها. فكما أنّ الأحياز المائيّة(البحار- الأنهار- الآبار- العيون- الغدران...) كانت، أو تكون، ثمرةً من ثمرات تَهاتُنِالأمطار؛ فإنَّ هذه الطلول التي كانت مغمورةً تحت ركام الرمال والتراب والأغثاء لمتغتَدِ كذلك إلاّ بفعل هذه الأمطار.
5. إنّ الحيز الميت الموحي بالحزن،والمفضي إلى القتامة والوجوم، بفعل السيول السائلة، والأمواه الجارفة؛ يستحيل إلىحيز آخر قمين بالجمال والنور، وهو رسوم الكتابة، وأشكال الخطوط. فالأقلام هنا كأنهابمثابة السيل الفاعل الذي لا يبرح ينشط ويتحرّك، ويدْفَع ويحتفر، إلى أن يَتّركَأُثرَه بادياً على وجه الأرض وسطحها الهشّ؛ بينما المُتونُ تقابلُ سطح الأرض القابللأنّ تعملَ فيه السيولُ فتخدِّدَه وتَسِمَهُ وسَمْاً. فكأنّ السيول أقلامٌ تَكتْبُ؛وكأنّ الطلول متون كانت من أجل أن يُكْتَبَ فيها، أو عليها. فاللوحة الحيزيّة هنامركّبة، ولا تُفْهَمُ إلا بتعويم هذا التركيب وإذابته في بعضه بعضٍ. فكما أنّالأقلام تزبر بحروفها التي هي علامات تَتِّركُ على المَتْن المزبور؛ فإنّ السيولبحرفها وغشيانها سَطْحَ الأرض تَتَّرِكُ، هي أيضاً، على هذا المتن الأرضيّ علاماتٍهي تلك الآثار الطليليّة المختلفةِ الأشكالِ التي تبدو من بعيدٍ كالكتابة على متنمن المتون، أو وجه من الوجوه.
6. نلاحظ أنّ هذه اللوحة الحيزيّةالمركّبة تنهض على مظاهِرَ تشاكليّة مثل تشاكل السيول التي تحفر بسيلانها سطح الأرضفتتّرك عليه علاماتٍ؛ وتطبعه بأماراتٍ؛ مثل الأقلام التي تَزْبُرُ بسيلان حِبْرهاعلى الورق فتذر عليه أيضاً علامات. فالطلول تتشاكل مع الزّبر، والأقلام تتماثل معالسيول، ومتون الوَرق تتجانَسُ مع سطح الأرض الوارد في صدر البيت ضِمْناً، وقد غاب،لمقتضيات التكثيف الشعري، منطوقاً.
7. يجمع هذا الحيزالمائيّ-الَّلبِيديّ- بين المظهر الأنتروبولوجيّ المتجسّد في الطلول البالية، وإنشئت في هذه التخديدات التي تذرها السيول على وجه الأرض بما ينشأ عن ذلك من طقوستعامل الناس مع المطر، وخصوصاً في المناطق الصحراويّة، وبين المظهر السيماءَوِيّالماثِلِ في سمة الكتابة التي تتركها المزابِرُ على القرطاس فتغتدي سماتٍ دالّةًيتفاهم المتلقّون من خلالها .
فالألفاظ المكتوبة، أو اللغةالخرساء، تغتدى مُمَاثِلاَتٍ(إقُونات) للأصوات الدالّة الغائبة ضمناً. فالألفاظ إذنسمات حاضرة دالّة على سمات غائبة. فالدلالة هنا تقوم على مبدأالمُمَاثِلِيةِ.
8. إنّ هذه الطلول كانت قائمة،ولكنها كانت شديدة البلى، متناهية الشحوب؛ فلما جاءت السيول جَلَتْها، وصقَلتآثارَها، فتجدّدت كفعل الكاتب حين يجدّد حروف كتابته على صفحة ورقة: فتبرُزُ بعدأمِحّاءٍ، ويتوهَّجُ لونُها بعد شحوب.
9. كأنّ النص هنا يصوِّرُ حيزاًحاضراً على سبيل العناية باللوحة الأماميّة. أمّا ما نطلق عليه نحن"الحيز الخلفيّ"،وهو الذي كان علّة في إيجاد الحيز الماثل، فالحديث عنه لم يكُ إلا عَرضاً؛ إذالسيول هي التي كانت علّة في تخديد الأرض، فالأخاديد سمة حاضرة دالّة على سمة غائبةهي السيول، فهي تنضوي تحت الصور السيماءَوِيَّةِ القائمة على مثولالقربنة.
ونلفي صوراً لِلَوحاتٍ حيزية أخراةتَمْثُلُ في معلقّة لبيد كقوله:
رُزِقَتْ مرابيعَ النجوموصابَها
|
|
ودْقُ الرَّواعِد: جَوْدُهافَرِهَامُها
|
يعلو طريقَةَ مَتْنِهامُتواتِرٌ
|
|
في ليلةٍ كَفَرَ النجومَغَمامُها
|
من كلّ سارية وغادٍمُدْجِنٍ
|
|
وعَشيَّةٍ متجاوبٍإرزامُها
|
فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرّيَّرَسْمُها
وأسْبلَ واكِفٌ مندِيَمةٍ
|
|
يُرْوي الخمائلَ دائِماًتَسْجامُها
|
عَلِهَتْ(جزعت) تَرَدَّدُ فينِهَاءِ(غدير) صُعَائِدٍ...
*****
ولعلّ عنترة أن يكون ثالثالمعلّقاتيّنين الذين عُنُوا عنايةً شديدة برسم الحيز المائيّ، ووصف الأمكنةالخصيبة التي هي ثمرة من ثمرات تهاتن الأمطار، وتساقط الغيوث.
ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتوقّف لدىالصورة الشعريّة المائية التي أبدع فيها، فحلّق وتفرّد... وهي تلك التي تَمْثُلُ فيقوله:
أو رَوْضَةً أُنُفاً تضَمَّنَنَبْتَها
|
|
غَيْثٌ قليلُ الدِمْنِ ليسبمُعْلَم
|
جادَتْ عليها كُلُّ عينٍثَرَّةٍ
|
|
فتركْنَ كلَّ حديقةكالدِرْهم
|
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّعشيّةٍ
|
|
يَجْرى عليها الماءُ لميَتَصرَّمِ
|
فهذه اللوحة الحيزيّة بديعةُالمظهر، جميلة المنظر؛ فغيْثُها نظيف شريف؛ فكان نبتُه أنيقاً ناضراً،ومُخضَوْضِراً فاخراً؛ قد تغافص في هذه الحديقة الأُنُفِ فتكاثر واعشوشب، وَرَبَاواخْضَوْضرَ. لقد سقت الغيوث هذه الحديقة سَحّاً وتَسْكاباً، وأمطرتها جَوْداًغَدَقاً، وتَهْتَاناً طَبَقاً؛ حتى اهتزّت وربّتْ، واخْضَرَّتْوأزهرَّتْ:
1. إنّ أوّل ما يسم هذا الحيزالخصيب البديع هو اخضرار نبْته، وتغافص عشبه متنامِياً متعاليا.
2. لم يكن هذا الحيز مخضرَّاً،أصلاً؛ ولكنه اخضرَّ بفعل تهاتن الأمطار، وتساكب الغيوث الكريمة عليه، فاستحال منمجرد حيز قاحل، إلى روضةٍ أُنُفٍ خَصِيبٍ.
3. إن هذا الحيز الأماميّ البديع،لا يلبث أن يُفضي إلى حيز أبدعَ منه بَدَاعَةً، وأروع منه روعةً؛ وهو الحيز الخلفيّالناشئ عن الحيز الأماميّ الذي هو، في الأصل، مشهد تهاتن الأمطار خيوطاً بيضاءَممتدّة امتداداً عموديّاً من عَلُ إلى تَحْتُ؛ فتلك الخيوط المائيّة(القطرالمتهاطل) -وهي حيز مائيّ- هي التي تفضي، بفعل تَسكابها المِلْحاح، وتَسْجامِهاالمِغْزار، إلى تشكيل حيز آخر هو هذه الِبَركُ المائيّة الصغيرة التي تحتقنها الأرضفي أيّ بقعة منقعرة منها؛ حتى إذا ما أصابتها الشمس، وأشرقت عليها بأشعّتها، رأيتهذه العيون كالمرايا المثبتة على وجه الأرض، أو كالدراهم المستديرة الشّكل، الفضيّةاللون، الناصعة المنظر. فالحيزّ الغائب هو هذه الأشعة الشمسيّة التي بفضلها استحالتالعيون المائيّة إلى ذات مرآة تُشَاكِهُ مَرْآةَ المرايَا الضخمة اللَّقَى فيالفَلْوَاتِ، والعاكسة لأشِعَّةِ الشمس المتوهّجة.
4. ولعلّ من الواضح أنّ حيزالعيون/الدراهم، أو العيون/ المرايا: لم يكن ممكِناً مشاهَدَةُ مَرْآتِهِ من مكانمستوٍ، ولكن من مكانٍ عالٍ. فكأنّ هذه الأمطارَ كانت تهاتنَتْ على سهول شاسعة،فتركتها عيوناً، عيوناً؛ ولكنّ مشاهدتها لم تكن ممكنة إلاّ من أَعالِيها، ومنفَوْقِ ذُرَاهَا، لِتَبْلُغَ رَوْعَةُ الجمالِ الطِبيعِيّ غايَتَاهَا...
5. واستخلاصاً من بعض ما حَّلْلنا،يمكن أن نعدّ هذا الحيز المائِيَّ متحوّلاً، أي أنه ليس أصلياً، لأنّ الأصل فيهالقُحولَةُ لا الخِصْبُ، واليبس لا الإمراعُ الرَّطْب، ولم يغتِد إلى ما اغتدى إليهإلاّ بفضل الحَيَا النازل، والسماءِ الهاتن. فكأنّ هذا الحيز الخصيب الماثل في هذهاللوحة، يشكّل مُمَاثِلاً(إقونة) ناقصاً لحيز غائب. أو قل إنه على الأقل معلوللعلّة غائبة، فيكون الخصب معلولاً للماء، والماء معلولاً للسحاب؛ فهو إذن إمّامُماثل ناقص، أو قرينة كاملة. أو ليس الخِصْبُ الماثل في هذا النص المؤلَّف منثلاثة أبيات، إنما هو سمة حاضرة وقعت بفضل سمة غائبة، وهي المطر النازل؟ (38).
6. وبينما مَرآةُ العيونِالثّرَّةِ، أو الغُدْران الصغيرة، التي تشكّلت بها الأرض المسقيَّةُ بماء المطر هيأيضاً إمّا مُمَاثل ناقص(غدران الماء الماثلة للعَيْنِ) تماثل مياه الأمطار الغائبةعن العين)؛ فإنّ الغدران لم تَكُ، وهي السِّمةُ الحاضرة، إلا قرينةً للسمة الغائبةالتي هي الغيث الهاتن.
7. إنّ هذا الحيز المائيّ، أو الحيزالخصيب، له شبه بحيز لبيد:
وجَلا السيولُ عن الطُّلولِكأَنها
|
|
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَهاأقْلامُها
|
من حيث تأثيرُ المطرِ في الأرض، غيرأن صورة لبيد توحي بالوحشة، وصورة عنترة توحي بالأنس. ولا سواء مطر يُعَرّي الأرضفيذكّر بمدفونات الذكريات، ومطر يسقيها فتغتدي مُخْصِبَةً مخضرّة، ومُمْرِعةمُعْشِبة.
8. ويسْتَمِيزُ هذاالحيز-العَنْتَرَيّ- المسقِيُّ بتحديد علاقته بالزمن بحيث لا يكاد يحدث له ذلك إلاّفي العَشايا والأمساء. والذي يعرف الجزيرة العربيّة وَجَنوبَها خصوصاً يدرك مدى صدقهذا الوصف. ولعلّ من فوائد أمطار الأماسي أنّ الناس في معظمهم يكونون قد قضوامآربهم اليوميّة فيكونون إمّا آبُّوا إلى بيوتهم، وإما هم بصدد الإيَابِ، كما أنهيتحاين مع حلول الليل ورطوبته التي تسمح للأرض بارتشاف الماء على مهل؛ ممّا يجعلالنفع بهذا المطر أكثر. ولو تساكب المطر ضُحىً، ثمّ جاءت عليه الشمس المحرقة لكانتأتَتْ على رطوبة الماء، وجفّفتْ قشرة الأرض؛ فلا ينتفع النبات، أثناء ذلك، إلاّقليلا.
*****
وأمّا الحيز المائيّ لدىالمعلّقاتيّين الآخرين فإنه شحيح الوجود، وربما يكون طرفة بن العبد أذكرَهم له،وأكثرَهم تعامُلاً معه، وإن ظلّ هذا الحيز المائيّ إمّا بحريّاً ونهريّاً، كما فيقوله:
- يجوز بها الملاّحُ طواراويَهْتَدِي
- يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيزْومُهابِها
- كَسُكَّانِ(ذَنَبِ السفينة) بُوصِيّ(ضرب من السفن) بِدِجْلَةَ مُصْعدِ؛
وإمَّا صحراويّاً، ولكنه يظلّ معذلك خِصْباً مثل قوله:
- (...) تَرْتَعِي
|
|
حدائِقَ مَوْليّ الأَسِرَّةِأَغْيَدِ
|
ولكن أين ذلك من اللوحات الحيزيةالمائيّة البديعة التي كنّا صادفناها لدى امرئ القيس، ولبيد، وعنترة بنشداد؟
ولا يقال إلاّ مثلُ ذلك في الحارثبن حلّزة، وعمرو بن كلثوم، وزهير بن أبي سلمى.
****
ثانياً: الحيز الخصيب:
قد لا يختلف الحيز الخصيب عن الحيزالمائيّ، فذلك ملحق بهذا، وهذا علّة في ذاك. وليس إِفراد الحيز الخصيب، هنا بالذكر،إِلاّ من باب التفصيل والتجزِيءِ.
فمن ذلك ما جاء في معلقة زهير بنأبي سلمى:
بها العِينُ والآرامُ يَمْشِينَخِلْفَةً
|
|
وأطلاؤُهُنَّ ينهَضْ من كُلِّمَجْثَمِ
|
فهذه الرسوم الدَّوارِسُ،والطُّلولُ البَوالي، والدُّيارُ الخَوالي، أخضارَّ نباتُها، وتغازَر ماؤُها،فاغتدت مَراتِعَ خصيبةً للبقَر والثيران الوحشية؛ كما أمست مغانِيَ لِلأْرْءَامِيتراكض فيها، ويطوّفن بين أرجائها. فلولا خِصْبُ هذا الحيز المسكوت عن اخضرارهمنطوقاً، ولكنه وارد في هذا البيت مضموناً: لما صادفْنا هذه الحيوانات الوحشيّةالتي لا تعيش في مألوف العادة إلاّّ في الأماكن الخصيبة، والمغاني الرطيبة. وقد طابلها المقام فيها إلى أن توالدت فتكاثرت بحيث لا نلفي الأبقار الوحشيّة وحدها هيالتي تنعَمُ بهذا الإمراع والسكون؛ فقد يدلّ ذلك على أنّ وجودها هناك كان مجرّدعبور، ولكننا نصادف أَطلاءَها وهنّ ينهضن من كلّ مجثم، ويتواثبن في كلّمرتع.
وإنما يدلّ قوله"من كلّ مجثم" علىالتكاثر والتسافد.
ومثل ذلك لا ينشأ إلاّ عن الخصبالذي هو بمثابة الرخاء للإنسان.
وتصادفنا لوحة حيزيّة أخراة خصيبةفي بعض معلّقة لبيد، وتتجسّد في قوله:
من كلّ ساريَةٍ وغادٍمُدْجنٍ
|
|
وَعِشيَّةٍ مُتجاوِبأَرْزَامُها
|
فَعَلا فروع الأيْهقانِوأطفَلَتْ
|
|
بالجَلْهتَيْن ظِباؤُهاونَعامُها
|
- والعينُ ساكنُةُ علىأطْلائِها
- فالضيف والجارُ الجَنِيبُكَأنّما
|
|
هَبَطا تَبَالَةَ مُخْصِباًأهَضْامُها
|
فالأولى: إنّ هذه الصور الحيزيّةمُمرعة الخِصْب، شديدة الخضرة؛ فكأنها تمثّل حال الربيع في أوج طوره، وذروةاعْشِيشَابِه؛ فهل هي صورة حقيقيّة عاشها الناصّ فرسمها لنا رسْماً عبقرياً، أم هيمجرّد صورة جماليّة كان يتمثلَّهُا للطبيعة العذريّة فضمّنها نَصُّه، فأحسننَسْجَه؟
والثانية: إننا نصادف تقارباً بلغالتشابه والتماثل بين قول عنترة:
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّعشيّةٍ
|
|
يجرى عليها الماء لميَتَصرَّمِ
|
وبين قول لبيد بن أبيربيعة:
من كلّ سارية وغادٍمُدْجِنٍ
|
|
وعَشيَّةٍ متجاوبٍإرْزامُها
|
وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ بلاد العرب،وخصوصاً المرتفعات اليمنيّة، تتهاطل أمطارها، في الغالب، بالرعود أولاً، وبالعشايَاآخِراً. وما ورد لدى عنترة ولبيد قد يكون مجرد توكيد لهذه الحال الطقسيّة التي تبرحقائمة إِلى يومنا هذا.
والثالثة : إنّ قوللبيد:
والعِينُ ساكنةٌ علىأطلائِها
يُشارِكهُ قولَزهير:
بها العِينُ والأرآمُ يمشِينَخِلْفَةً
|
|
وأطلاؤُهُنَّ ينهَضَ من كُلِّمَجْثَمِ
|
وكلّ ما في الأمر أنّ أبقار لبيد لاتبرح محتضنة لأطلائها؛ على حين أنّ أبقار زهير كأنها كانِتْ تخلّت عن الحَضْن،وسَمحت لأطلائها بأن تسرح معها فتتلاعب في هذا الخصب الكريم، وهذا الحيزالرطيب.
ولعلّ هذا التشابه أن يدلّ، كماكنّا أومأْنا إلى بعض ذلك من قبل، على أن نصوص المعلقّات تشكّل وحدة واحدة على ماقد يبدو فيها من تفرّد؛ فالتفرّد إنما يَمْثُلُ على مستوى المعالجة والطرْح، لا علىمستوى القضّية والمضمون. بل إننا لَنلاحظ أنّ التشابه يطفر على مستوى النسج وتوظيفاللفظ...
والرابعة : إنّ هناك تماثُلاً آخرَيمثل في بيتَيْ زهير السابقيْن، وبيت لبيد:
فعلا فروعُ الأيهقانِوأطفلَتْ
|
|
بالجلهتين ظباؤهاونَعامُها
|
فصورة الخصب في حيز زهير غائبة،وإنما يدلّ عليها الحال التي تعيشها الأبقارُ العِينُ، وأطلاؤهنّ المَرِحاتُ. علىحين أنّ صورة الخصب في لوحة لبيد مفصّلة بشكل أدقَّ حيث إنه يذكر ارتفاع نبْتالأَيِهَقَانِ بفعل الغيوث المتهاتنة والمتتابعة... ولقد بلغ الخصب بهذه الْعِينِإلى أن تسافدت، فتوالدت بما أطفلت بضفَّتيْ هذا الوادي الخصيب.
فالشأن في هذه اللوحة الحيزيّةالمخضرّة ينصرف إلى الماء الجاري في الوادي المسكوت عنه، والذي تتضمّنهالجَلْهَتَانِ(الضفّتان)-؛ وإلى جَلْهَتَيْ هذا الوادي وقد جاء ذكرهمانَصّاً.
والخامسة : نجد كلاًّ من زهير ولبيديتحدث عن ثلاثة أصناف من الحيوانات الوحشية- التي ترتبط حياتُها بالخصب والماء،والكلأِ والسَّماءِ-: العِين(الأبقار الوحشيّة)، والآرم- أو الأْرْآم- (الظباءالبيضاء)، والأطلاء(أولاد البقر في السنّ الأولى التي قد لا تتجاوز شهراً واحداً) (39).
بيد أنّ لبيدا يفوق زهيراً بحيوانوحشيّ رابع هو النَّعام. ولعلّ ذلك أدعى إلى زيادة الخِصْبِ في حيزه، وأدلّ علىتكاثر نباته، على الرغم من أنّ هذه الحيوانات كلها قادرة على العيش في الصحراء. ولكن لا ينبغي أن تتمثَّل هذه الصحراء على أنها مجرّد حيز أجرد أجدب، قاحل ما حل: لا نبت فيه ولا شجر، ولا عشب ولا كَلأَ؛ إِذ كلّ هذه الحيوانات إنما تتغذَّى منحُرِّ الكلأِ وخالِصِ أوَراقِ الأراكِ...
والسادسة: إنّ أطفال الظباء والنعاميؤكّد الخصب الخصيب لهذه اللوحة الحيزيّة لسببين:
1- لوجود الواديوضفّتيه.
2- لا يمكن أن يقع الأطفالُوالحَضْنُ إلاّ إذا كان المكانُ خصيباً، والجوّ ملائماً للتكاثروالتسافد.
والسابعة: ومن الآيات على ثبوت خصبهذا الحيز، وإِلحاح النص المعلقّاتي عليه، معاودة لبيد الحديث عنه في موطن آخر منمعلقّته، وهو قوله متحدثاً عن زوج البقرة والثور:
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيّوَصدَّعَا
|
|
مَسْجُورَةً مُتَجاوراًقُلاَّمُها
|
محفوفَةً وسْطَ اليَراعِيُظِلُّها
|
|
منها مُصَّرعُ غابةٍوقِيَامُها
|
ففي هذين البيتين نصادف لوحة حيزيةعجيبة الخصب، فهناك:
1- الماء(السريّ وهو النهر الصغير،ومسجورة: أي عيناً مسجورة؛ أي عيناً نضَّاحَةً بالماء)،
2- الغابة،
3- اليراع (وهو القصب بما فيهاخضرار وبُسُوقٍ وتَرَهْيُؤٍ حين يُصيبه النسيم)،
4- يُظِلُّها(والضمير فيه يعود علىاليراع).
فهنا لا يصادفنا الشجر وحده، ولاالماء وحده، ولكنهما اجتمعا؛ بل لقد اجتمع كلّ منهما في صورتين اثنتين: السريّ الذيهو نهْر صغيرٌ جارٍ، والعَيْن المسجورة بالماء، الطافحة به؛ فإن شئت، إذن، نظرتإِلى الماء في هذا الحيز جارِياً، وهو ذاك الماثل في هذا السرِيّ الذي قيّض اللهمثله لمريم حين وضعت عيسى(40) -فكانت تتشرّب من مائه، وتننسّم من نسيمه- فعَلْت؛وإن شئت، إذن، تظلَّلْت بظِلال اليَراع، وظِلال أشجار الغاب،أَتَيْتَ...
فكأنَّ هذا الحيز يمثّل طبيعة بعضبلاد الألب؛ ولكنّ الذي يذهب اليوم إلى بلدة إبّ مثلاً، باليمن، يدرك حقيقة هذهاللوحة الحيزيّة الخصيبة، وإنّ بلاد العرب، فيما يبدو، كانت من الخصب والماء علىغير ما هي عليه الآن...
*****
ذلك، وأنّا كنّا، في الأصل،رَصْدَنَا أضرُباً أُخراةً من الحيز في هذه المقالة، ابتغاءَ تحليلِها، ولكن لَمَّاطال النفَس، أضرَبْنا عن ذلك إلى حين. ومما كنّا رصدناه من أنواع الحيز ما أطلقناعليه: الحيز المتعالِي، والحيز المضيء، والحيز المنشطر، والحيز العارِي... وقداجتزأنا، كما رأينا، بالحيز المائيّ، والحيز الخصيب، وركّزنا خصوصاً، على المظاهِرالجماليّة في تحليلاتنا لذيْنِكَ الضربَيْن من الحيز. فذلك، ذلك.
البعث و الاحياء
مقدمة*
يمثل عصر النهضة نقطة تحول في القصيدة من طور الصنعة والبديع إلى طور البعث والإحياء حيث إشتدت الرغبة في العودة إلى الأصول القديمة بإعتبارها نماذج تُحتوى بها ومنطلقا أساسيا للإنعتاقمن قيود الركود والجمود ويعد(صاحب النص)بشهادة عدد من النقاد وإلى حنين أحد الرواد الذين كان لهم الفضل الكبير في إحياء الشعر العربي والشاعر(فلان+التكلم عن حياته).فإلى أي حد كان هذا الشاعر مثلا للثراث الشعري القديم؟ وما الخصائص التي إلتزم بها وسعى إلى بعثها وإحيائها؟وماهي حدود تقييده بعمود الشعر
العربي؟
العرض*
فالقصيدة التي بين أيدينا التي عُنوِنيتبـ(عنوان القصيدة)لـ(صاحبها)،تعد من أبرز القصائد وأجملها،فمن فمن خلال الملاحظةالبصرية يلاحظ أن شكل القصيدة لايختلف في شيء عن القصائد العربية القديمة،فهي تنتميإلى الشعر العمودي،الاقائم على نظام الشطرين المتناظرين-الصدر والعجوز-ويتقيد فيهصاحبه بوحدة القافية والروي والوزن والعنوان(عنوان القصيدة)جاء ببنية لغوية(مركبةلفظية أو أكثر)(بسيطة لفظ واحد)وهو يحيل على موضوع(موضوع القصيدة)الذي تختزلهكلمة(أحد ألفاظ العنوان)ويؤطر دلالت القصيدة وكما أنا قراءة أبياتها(..)تُفظي إلىإستنتاج عام مفاده أن ثمة مواقف مختلفة وأبعاد متنوعة ودلالات متعددة وتختزل تجربةالشاعر وتعلن عن أحواله النفسية وإنفعالاته الداخلية،وهذا يعني أن مضامين هذهالقصيدة ليست واحدة وأيما تتنوع حسب إختلاف الوحدات الدالة عليها والمواقف المعبرةعنها وهذه تعتبر سمة أساسية من سمات القصيدة الكلاسيكيةويتبينهذا من خلال الوحدالت التي قسمها صاحب النص قصيدته وهي على النحوالتالي،فالوحدةالأولى تضم الأبيات{..}حيث يخصص شاعرنا بالحديث عن(..)أما الوحدة الثانية فتضمالأبيات{..}وفيها يتنقل الشاعر من الحديث عن(..)إلى الحديث عن(..)وأخيرا الوحدة3والتي تضع الأبيات{..}وقد ضمَّنها الحديث عن(..)أما على صعيد المعجم فنلاحظ هيمنةحقل(..)على حقل(..)،هذا يفضي إلى حظور ذات الشاعر المتكلمة.والملاحظ من خلال تتبعالحقلين أن العلاقةالتي تربط بينهما هي علاقة(إنسجام،تكامل،تضاد..)،والمتأمل فيالصور الشعرية نجد أن القصيدة تعتمد في تشكيل مضامين على تقنيات البلاغية العربيةالقديمة من(سجع،تشبيه،إستعارة،مجاز،جناس،طباق)ومن التشابيه تشبيه الشاعر فيالبيت{..}(أمثلة)ومن الإستعارة(أمثلة)..وبعد ذلك يتحقق حضور كا من الإيقاع الداخليوالخارجي(البحر،الوزن،الروي،القافية)،فالقصيدة نظمت على وزن البحر(أذكر البحر)ذيالتفعلة المركبة وهومن البحور الخليلية الفخمة وهو يضفي على القصيدة إيقاعا موسيقيارناناً.وإذا كان شاعرنا قد إلتزم بتفعيلة البحر(..)فإنه قد إلتزم في الآن نفسهبوحدة القافية(تحديدهاونوعها)(مقيدة أو مطلقة)ووحدة الروي(حرف)محافظا بذلك على أهمخصائص القصيدة العمودية ذات نظام الشطرين المتناظرين والذي يخلق تجانسا إيقاعياًينسجم ‘لى حد كبير مع حركات المدِّ وتكرار بعض الأصوات(أمثلة)إضافة إلى ذلك نجد أنشاعرنا من الناحية الأسلوبية يتأرجح بين الإخبار والإنشاء رغبة في وصف الحالةالنفسية للشاعر،ومن الصيغ الإنشائية نجد(التعجب)(أمثلة)وكذلكأسلوب(النداء)(أمثلة)وكذلك أسلوب(التمني)(أمثلة)،وكذلك نسجل حظور الضمائر(الغائبأوالمخاطب أوالمتكلم)وكلها تحيل عن واقع المأساة التي تعانيها ذاتالشاعر.
خاتمة*
وتأسيسا على ما سبقيتضح لنا من خلال قصيدة الشاعر(عنوانها)قد ظل وفيا لتقاليد القصيدة العربية ومخلصالنظامها وبالتالي تأكد لنا بالدليل والبرهان على إنتماء هذه القصيدة إلى خطاب البعثوالإحياء
المعاصرة والتحديت
مقدمة°
كاتت القصيدة العربية القديمة تشكل نموذجالايمكن تخطيه سواء حيث الشكل أو من حيث خصائص المضمون وظلت قرونا طويلة تسير ببطءشديد ماعدا بعض النكبات التجديدة التي كنَّا نلمحها عنذ بعض الشعراء لكن هذاالتجديد في الموضوعات فقط.أما الصياغة فقد ظلت على حالها وبالنسبة للشكل الشعري فلميتغير ومع بداية القرن 20 حيث ظهرت محاولات التجدي عند البارودي،لكنها لم تكن سوىباعث للقديم من مرقده وفي المهجر ظهرت نازك الملائكة وبدرشاعر السياب،هذه الحركةكانت رائدة للحركة الإبداعية المناهضة للأشكال القديمة البالية والداعية إلىالتجديد قلباً وقالباً،حيث حيثأصبح فيها الشعر رؤية إنسانية وكشفُنا عن عالم يظلأيدا في حالة إلى الكشف، والشاعر(صاحب القصيدة،نبذة عنه)ينتمي إلى هذا التيارالأخير الذي سمّي بخطاب المعاصرة والتحديث.إذن فكيف مثّل شاعرنا هذا الخطاب؟وماهيالخصائص الشعرية التي بنا بها القصيدة؟
العرض°
يعلن عنوانالقصيدة منذ الوهلة الأولى على مؤشرات لوضع فرضيات تقرأ في ضوئها الأبياتالمنتقاة.حيث يتكون العنوان من (لفظةأوأكثر)فـ(اللفظة الأولى)وهو يحيل على(موضوعالقصيدة)التي تختزله لفظة(أحد ألفاظ العنوان)وإذا تأملنا النص نلاحظ أنه يتكون منعدة وحدات فالوحدة الأولى تتضمن الأشطر(عددها)حيث خصص الشاعر بالحديث عن(مضمونالوحدة)أما الوحدة الثانية(عدد الأبيات)فقد تطرقت بالحديث عن(مضمون الوحدة)..،وواضحأن هذه الدلالات تأكدت من خلال تواتر حقول عديدة والدالة عليها وهي الحقل الدالعلى(ذِكر الحقل)والحقل الدال على(ذِكر الحقل) فالحقل الأول تشكله الألفاظالتالية(أمثلة) والحقل الثاني تشكله الألفاظ الآتية(أمثلة)وإذا كانت الألفاظ في هذهالظاهرة الأدبية تكشف عن مواقف الشاعر تجاه(المستعمرمثلاُ..)هذا الموقف الذي إنتهىبه إلى العيش في(المنفى،السجن،المعتقل،العيش منعزلا..)وإذا كانت الألفاظ في هذهالتجربة الشعرية تُعَدُّ مدخلا رئيسيا في الكشف عن البنية الإيقاعية للنص وأول مايلاحظ أن الشاعر إعتمد على تكرار بعض الألفاظ مثلا (أمثلة)ولعل في تكرار هذااللفظ(عدد التكرار)يوحي بـ(موقف الشاعر)كما أن الأصوات المتكررة هي(حسب النص)كماأضفت هذه الاصوات نغمة موسيقية تتلونبحسب الوسط الذي تتواجد فيه.كما أن الشاعرإعتمد على السطر الشعري بدل البيت الشعري التقليدي وقد مكنه ذلك من خلق إنسيابالأسطر الشعرية في بعضها البعض إضافة إلى هيمنة الروي(الحرف)بنسبة كبيرة فيمقابل(الحروف الأخرى)وإلى تنويع المزايا بين(ذِكر البحور)،ويبدو أن الصور الشعريةفي قصيدة (عنوانها)ناجمة عن(عرض النص)،وقدإستعمل شاعرنا اساليب جديدة من صور تمتلثفي(التشبيه،الإستعارة،المجاز،الجناس،الرمز..)ويتأرجح النص من الناحية الأسلوبية بينالإخبار والإنشاء ومن الصِيَغْ الإنشائية نجد (التعجب{أمثلة})وكذلكأسلوب(النذاء{أمثلة})وقد أضيف اسلوب(النهي{أمثلة})وكذلكنسجلحظور الضمائر حيث نجد(الغئب،المخاطب،المتكلم)كما وُضِّفَ الأسلوب الخبري حيث نجدالجمل الفعلية ومن أمثلثها(أمثلة)وكذلك الجمل الإسمية(أمثلة).
خاتمة
ونخلص مما سبق إلى القول بأن القصيدة (عنوان)لـ(صاحبها)هي قراءة جديدة لتاريخ الإنسان في الكون تربط القضايا الراهنةبجدورها النفسية والتاريخية وقراءة توحد بين الأبعاد الذاتية والجماعية عن طريقتوضيف الرمز بإعتباره إقتلاداُ لغوي يكشف عن مجموعة من الدلالات والعلاقات في بنيةدينامية تسمح لها با
*التطوير رالتجديد
مقدمة*
لم تقف حركية الشعر العربي عندالحدودالتيرسمها له رواد الكلاسيكية من أمثال الباروديوشقي وحافظ بل تخطّت تلك الحدودنحوتطوير الشعر وأساليبهمتفتحة على آفاق جديدة ومغايرة إستجابة لعواملتحديثالمجتمعوعصرنيته تأثرا بالنموذج الغربي حيث كان الأديب توّاقاً إلىالتجديدحالماً بمجتمعإنساني أكثر إستعدادا للتواصل معالخطاب الأدبي الذي روجهالرومانسيون عن المحبةوالطبيعةوالإنسانت ويُعدُّ(صاحب النص)أحد رواد الإتجاهالرومانسي(حياة الشاعر).إذنفكيف مثّلشاعرنا هذاالإتجاه؟و ماهي الخصائص الشعريةالتي بنا بهاالقصيدة؟
*العرض*
يعلن عنوان القصيدة منذ الوهلةالأولىعلى مؤشرات لوضع فرضيات نقرأ فيضوئها الأبياتالنتقاة،حيث يتكون العنوان من (لفظأو لفظتين)(اللفظة1)وهومؤشر على أنالقصيدة(حسب مؤشرها)و(اللفظة2)بإعتباره رمزاالحالة قد تكون هي حالة للشاعر.وعندناقرائتنا للبيت 1 والأخير نضعأيدينا علىمفاتيح تؤشر على أن القصيدة تلجعالمالوجدان،وتعكس من البداية إحساس بالألم توحيبه لفظة(ذكراللفظة)وخلال إلتقاط هذهالمؤشرات الدالة يلاحظ القارئ على أن القصيدةلاتصدمه بناء غير مؤلوف لديه إذ تتكررالقافية على نمط واحد(أوتنويعالقافية)ويأتيشكل الأبيات متوازية الأشطر(أومقاطع)ومنهذاالمنطلق يمكن إفتراض أن قراءة النصتُفضي بنتا إلى عالمالوجدان والذات.وعندمانبدأ مغامرة الكشف عن معاني النص نلتقيمنذ البداية بدلالات تؤكد خصائص هذا العالمالمثالي وعالم الحلم(أوالمدينة)حيثيهرب الشاعر من موقف مرفوض باحثا عن عالممثاليجسدته الطبيعة في صفائها وفطرتهاوكمالها،وتتمفصلالقصيدة إلى(عدد)وحدات..أولها تجسدلحظة(..)وثانيها(..)ثم يصورثالثها لحظة(..).إذن مما سبق يتضح أن القصيدة تنقل تجربةذاتيةللشاعرفي(حياته،غربته،عزلته)من خلال حظور ثيمات فيالقصيدة من خلال الحقلالدالعلى(..)ومن أمثلثه(..)والحقلالدال على(..)ومن أمثلثه(..)وإذا كانإستخدامحقلين(الأول)و(الثاني)مؤشرا على أبعاد النص فإن دلالاته بُنيتعلىأساس(تقابل،تعارض،إنسجام)حيث نخلص إلى أن أكثر الحقولالمهيمنة في القصيدةهو(الحقل)ونحن نرويبخطوات الأعين علىالقصيدة نهضت الصور الشعرية تفرض نفسها قائلةها آنذا بمجازاتمثلا(أمثلة)وكذلك صرحة الإستعارة بكلماتها(أمثلة)إلى جانب الطباقحيثنجد(أمثلة)ومنكل هذا نخلص إلى أن القصيدة غنية بصورهاالشعرية ما إستطعناالإبتعاد عن قرائتهاوبعد ذلك يتحققحضور لكلتى الإيقاعين اللذان حضر بقوة لا منناحية الإيقاع الداخليوالتي تمثلت في تكرار الاصوات(أمثلة)وكذلك الكلماتالتالية(أمثلة)وكذلكنجد الإيقاعالخارجي حاضرا بتنوع رويه وقافيته{*ونظمالشاعرقصيدته على البحر(إسمه)أو *وقد نظمالشاعر فصيدتهعلى أحد البحورالخليلة الفخمة}.أمامن ناحية الأسلوب فالملاحظ أنهيتأرجح بين الإخبار والإنشاء رغبة في وصف الحالةالنفسية ومن الصيغالإنشائية نجدالتعجب(أمثلة)وكذلك أسلوبالنداء(أمثلة)وأسلوبالنفي(أمثلة)إلأى جانب اسلوبالإستفهام(أمثلة)وأسلوب التمني(أمثلة)كما وضف الأسلوبالخبري الذي نجدهحاضرا عنطريق الجملالإسمية(أمثلة)والجملالخبرية(أمثلة)وكذلكحضورضمائر(الغائب،المخاطب،المتكل م)وكلهاتحيل على صورة المأساة التيتعانيها ذاتالشاعر.
*خاتمة*
وتأسيسا على ما سبق ننتهيالقول إنقصيدة(العنوان)لـ(صاحبها)قد جسد فعلا مستويات خطاب التطوير والتجديدوما دعاإليه منتجاوز للتقليد والتشبث بالتجديد على مستوىالشكل الشعري والصورةواللغة
نمودج لامتحاناللغة العربية
قال الشاعر محمود درويش في قصيدة بعنوانالى القارئ
الزنبقات السود في قلبي
وفي شفتي ....اللهب
من اي غائب جئت
ياكل صلبان الغضب
بايعت احزاني
وصافحت التشرد والسغب
غضب يدي....
غضب فمي....
ودماء اوردتي عصير من غضب
ياقارئي
لاترج الطرب
هذا عذابي
ضربة في الرمل طائشة
واخرى في السحب
حسبي اني غاضب
والنار اولها غضب
الشاعر محمود درويش شاعر فلسطيني معاصر للقضيةالفلسطينية منذ بدايتها
الزنبقات .. ازهار
السغب.. الجوع
اوردة .. ج وريد عروق
المطلوب
اكتب موضوعا تحلل فيه النص تحليلا ادبيا وفقالخطوات المنهجية مسترشدا بمايلي..
1. ضع النص في اطاره العام
2. حدد المضامين الاساسية للنص
3. ابرز الخصائص الفنية للنص
4. حدد مظاهر الاختلاف النص المدروس مع القصيدةالاحيائية
المؤلفات
ورد في كتاب ظاهرة الشعر الحديث لاحمد المعداويمايلي..
"في ظل هذا الشمول الذي اتجه بالمضمون اتجاهاوجدانيا صرفا اتيح للقصيدة العربية الحديثة ان تعيد النظر في اصنافها والوانهاواحداث زينتها الاخرى التي تحولت بفعل الزمان الى قيود تبهر العين ببريقها وتملاالقلب شفقة بما تخفي وراءها من مضامين هزيلة"
النص: بتصرف من قصيدة ( كلمات سبارتكوس الأخيرة )
للشاعر : أمــل دنــقـل
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
لاتخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي
لربما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عيني
يبتسم الفناء بداخلي .. لأنكم رفعتم رأسكم مره
سيزيف لم تعد على أكتافه الصخره
يا قاتلي.. إني صفحت عنك
لــكنني أوصيك ..إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشجر
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقا
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي الربيع
والعام عام جـوع
وربما يمر في بلادنا الصيف الخطر
فتقطع الصحراء .. باحثا عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير والرمال.. والهجير والرمال
والظمأ الناري في الضلوع
يا قيصر الصقيع
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان ..في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت .. قصير جديد
* شروحات معجمية:
سبارتكوس: شخصية واقعية من التاريخ الروماني؛كان عبدا مملوكا لأحد قياصرة الروم ، فتمرد على الأسياد بتأليفه جيشا من العبيد رغبة في التحرر. ولكنه انهزم أمام جيوش القيصر قبل نجاح ثورته.
سـيـزيـف: شخصية خرافية تقول الأسطورة اليونانية؛ أنه كان محكوما عليه من طرف الآلهة بالصعود الى قمة جبل وهويحمل على كاهله صخرة. لكنه ما إن يقترب من القمة حتى تسقط الصخرة، فيعيد حملها مرارا دون جدوى.
مطرقين: منحني الرؤوس / الهجير: شدة الحر والقيظ./ القيصر: سيد الروم
المرجع : كتاب ( أمـل دنـقـل .. عن التجربة والموقف) ص110 – 113 تأليف : حسـن الغـرفـي/ الطبعة الأولى 1986
التحليل
تحليل قصيدة ( كلمات " سبارتاكوس" الأخيرة ) للشاعر أمل دنقل
- المقدمة : وفيها نتناول ملابسات ظهور الخطاب الشعري العربي المعاصر تاريخيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا ، والتي أنتجت خطاب تكسير البنية . إلى جانب التعريف بصاحب النص .( إنه الشاعر أمل دنقل ؛ ولد في 23 يونيو 1940 بصعيد مصر ، انتقل الى القاهرة بعد إتمامه الطور الثانوي من تعليمه ؛ ليلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. كانت الكلمة الشعرية سلاحه الأدبي في مواجهته رداءة الظرف التاريخي الذي عرف نكبة 1948 وهزيمة حزيران 1967 . الى أن داهمه عدو لا تنفع معه الكلمات / داء السرطان الفتاك، فلم يمهله لتجاوز سن 43 من العمر ، فكان موته فقدان صوت يتميز بشهادته على عهد التردي والإحباط . من أبرز ما خلف للقراء ديوان " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " ومنه أخذت القصيدة التي بين أيدينا.
- العرض : وخلاله نلاحظ على بنية القصيدة أنها خرقت النظام الشعري التقليدي ( العمودي ) بخروجها وتكسيرها للبنية النظمية النمطية . حيث لا تقيد بنظام الشطرين المتناظرين ولا بروي موحد أو قافية كذلك . أما العنوان / عتبة النص فنجده يتكون ـ تركيبيا ـ من المبتدأ وهو عبارة عن مضاف ومضاف إليه ( كلمات سبارتاكوس ) والخبر جاء صفة ( الأخيرة ) ، ـ أما دلاليا ـ فإن لفظة ( كلمات ) أتت لتدل على معنى مجازي يتجاوز دلالة المفردات المتناثرة بشكل غير ذي سياق ؛ بل لها دلالة أعمق وأدق لما يتعلق السياق بصفة الإخبار ( الأخيرة ) وخصوصا إذا ارتبط الموقف بكلمات أخيرة لإنسان / شخص سبارتاكوس . وهي الدلالة التي تضعنا أمام شبه ( وصية ) يتركها هذا الإنسان الذي أشرف على النهاية / الموت ، ويتأكد لنا مدلول الوصية من خلال صلب القصيدة وتحديدا في السطرين الشعريين ( 8 و 9) عندما يقول الشاعر : " لكنني أوصيك .. إن تشأ شنق الجميع / أن ترحم الشجر " .أما من حيث مضمون النص ومعجمه فهناك مؤشرات لفظية تمكننا من تقسيم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع ؛ قد تسهل علينا فهم الخطاب العام للقصيدة وذلك كالآتي :
أ - ففي المقطع الأول ما بين السطرين ( 1 و 6 ) يعكس الشاعر حالة مناداة صادرة عن صاحب الوصية ، وهو نداء موجه إلى أناس يعتبرهم إخوة له بحكم انتمائهم إلى صفه / صف منحني الرؤوس ( العبيد ) . وذلك وسط ميدان / ساحة من يتحكم في مصيرهم جميعا ، يناديهم ليوجه إليهم دعوته الأخيرة كي يرفعوا هاماتهم ويفخروا بكونهم يمثلون فريقهم / صف الراغبين في التحرر؛ حتى يواجهوا المصير بشجاعة وكرامة . ويستشهد بتجربة ( سيزيف ) الذي كان شخصا صلبا عنيدا في مواجهة القدر/ قدر العذابات التي كانت مقترنة بحمل الصخرة إلى قمة الجبل كما تخبر الأسطورة بذلك .
ب ـ ثم نجد الشاعر في المقطع الثاني ما بين السطرين ( 7 و 18 ) يكرر النداء لكنه ـ هذه المرة ـ موجه للمعتدي وليس للمعتدى عليه / للجلاد لا للضحية ، وذلك بتوجيهه خطابا إنسانيا يكشف تسلط الطاغية وعدوانيته . ويدعوه لاحترام تلك الوصية الواردة بين السطرين ( 8 و 9 ) . فالشاعر على لسان سبارتاكوس يدعو جلاده إلى الاستجابة لمطلبه الإنساني المتحضر ؛ لعله يثنيه عن إعدام عناصر الحياة المتمثلة في ( الشجر والجذوع والظلال ) ، ويحذر القاتل الجاني بأنه سوف يحتاج يوما ما إلى كل تلك العناصر عندما تنقلب الأحوال فيصبح من الباحثين عن حماية أو مأوى فلا يجدهما في قفار البيد ، ما دامت الأشجار والظلال قد أعدمت بأمر منه لتنصب مشانقا. وهكذا يضع الشاعر أمام هذا الطاغية صورة لردعه عساه يتراجع عن بطشه بالأبرياء . يقوم الشاعر بكل ذلك وهو يحاصر هذا المعتدي / القاتل بصفته السلطوية ؛ تلك الصفة المناقضة لكل ما هو إنساني متميز بالدفء العاطفي عندما يناديه " يا قيصر الصقيع " لفقدانه المشاعر النبيلة اتجاه أخيه الإنسان ، وتنجلي هذه الميزة السلطوية في النص من خلال الإصرار على تكرارها ( ثلاث مرات ) .
ت ـ وفي المقطع الثالث والأخير ( ما بين السطرين 19 و 22 ) نجد شخص الضحية / سبارتاكوس يعود لمناداة رفاق الصف / إخوته في المعاناة والقهر ؛ ليكشف أحوالهم المأساوية من خلال مشهد مأساوي يرصد وضعهم المهين . ثم في الختام يعلن رفضه تلك النزعة الانتظارية الواهمة التي يتبناها البعض وهو ينشد تغيير وضعية الاستبداد . فنسمع سبارتاكوس ينذر أتباعه باستمرارية العبودية ما دامت الأحلام لا تجدي نفعا ؛ وما دام زوال المعتدي أو موته لن يأتي إلا بمعتد جديد .
وهكذا يتضح الطابع التحريضي لوصية سبارتاكوس / للخطاب الشعري لأمل دنقل ، وهو خطاب يمثل ما يعرف في الأدبيات النقدية بالشعر الملتزم ؛ والذي يعبر من خلاله المبدع عن هموم الإنسان المقهور والمستعبد حيثما كان .
أما من حيث الحقول الدلالية فيمكن التوقف عند طبيعة المعجم الموظف شعريا في النص لنلاحظ ما يلي :
حقل دال على الطبيعة في تقلباتها
|
حقل دال على أحوال الإنسان
|
الصخرة ، الشجر ، الجذوع ، الصحراء ، الظلال ، الرمال ، الهجير ، النار ، الصقيع
|
الأخوة ، الرحمة ، الجوع ، الظمأ ، الحلم ، الإنحناء
|
وهناك حقل دال على الزمان ( المساء ، الصيف ، الربيع ) . غير أن الملاحظ على المعجم الدال على الذات / ذات الضحية نجده مهيمنا على النص بكامله ( على لسان صاحب الوصية ) وخلاله نجد الشاعر يتوارى خلف قناع ذلك الزعيم التاريخي (سبارتاكوس ) ، مما يعكس خطاب الوصية المزدوج والذي يتوجه عبره الشاعر إلى الآخر سواء باعتباره قاتلا أو باعتباره قتيلا . وما بين أنا الزعيم ( الضحية )والآخر( الطاغية والضحية / القيصر والعبيد ) يتضح المناخ التراجيدي لعلاقة الصراع التي تحدث عنها القصيدة .
أما المستوى الأسلوبي للنص فنجد الشاعر يمزج ما بين الإنشاء والخبر ؛ حيث نصادف النداء ( 4 مرات ) والأمر( مرة بصيغة مباشرة وثلاث مرات بصيغة النهي ) " ولترفعوا ـ لا تخجلوا ـ لا تقطع ـ لا تحلموا " . وهناك الأسلوب التقريري المباشر كما ورد في السطرين ( 6 و الأخير) . وهكذا جاء الخطاب الشعري للنص متأرجحا ما بين الرغبة في التأثير بقصد إشراك المتلقي في غمرة الشعور الإنساني بذلك الوضع المأساوي ؛ وبين السعي لإقناع نفس المتلقي بفداحة الموقف العدواني من طرف المستبد / القاتل . وقد كان الشاعر يسلك ـ إلى جانب التأثير والإقناع ـ مسلك الترغيب والترهيب كما في الوحدة النظمية الدلالية التالية ( الأسطر 12 ، 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 17 ) . ومما يضفي لمسة تراثية على النص توظيف الشاعر بعض المحسنات اللفظية مثل ( الربيع ـ الصيف / النار ـ الصقيع / الظلال ـ الهجير ) ولكن ذلك التوظيف جاء في سياق منظومة شعرية وليس بصيغة البديع التقليدي . فمن خلال ما يعرف بأسلوب المقابلة نجد الربيع يقابله الشجر والجذوع والظلال ، ونجد الصيف في مقابل الصحراء والرمال والهجير والظمأ ( لتتجلى ثنائية النعيم والشقاء ) فهو يضع الجاني بين خيارين.
أما المستوى الإستعاري فإنه يعكس الجانب الفني التصويري في القصيدة حيث نجد الشاعر أمل دنقل يعتمد على توظيف رموز معينة منها ( المساء كرمز لتلك اللحظة الوجودية الموحية بالنهاية / الصخرة كرمز لثقل هموم المعاناة والعذابات / الظلال كرمز للاحتماء بنعيم الرحمة / الصحراء كرمز للجدب وقساوة القهر الطبيعي / الانحناء كرمز للانكسارو المهانة بفعل الهزيمة / القيصر كرمز للاستبداد والجبروت ) . كما يعمد الشاعر ـ في معرض تصويره ـ إلى ما يعرف في أدبيات الفن السابع / السينما بالتصوير المشهدي ، فهو يصور بعض اللحظات المأساوية بشكل بانورامي . وكأن القارئ (ة) أمام أحد مشاهد أفلام التاريخ القديم والتي تسجل فشل حركة تمرد ما أو ثورة لم تلبث أن انتهت بهزيمة المتمردين الساخطين . لقد أبدع الشاعر في هذا التصوير دونما حاجة إلى بعض التقنيات البلاغية التقليدية ( كالتشبيه مثلا ) . ولنقرأ معا قول أمل دنقل في المقطع الأول وهو يصور مشهد زعيم الثوار spartacus مصلوبا / بؤرة اللحظات المؤثرة في النص الى جانب نصب الجذوع مشانق ، حيث لم يستطع أتباعه من العبيد رفع رؤوسهم ليروه مصلوبا بعدما تجرأ على حمل السلاح في وجه سادات المجتمع الروماني وعلى رأسهم القيصر . وهناك مشهد آخر في الأسطر ( 14 ، 15 ، 16 ، 17 ) ؛ والذي يصور فيه دنقل حالة الطاغية وهو يتيه في البيداء بدون مأوى أو ملجأ يحتمي به من قساوة القيظ ، حيث لا ظل يواريه ولا ماء يرويه سوى " الهجير والرمال".
أما المستوى الإيقاعي والذي يمثل موسيقى النص الخارجية فالشاعر قام بنظم قصيدته هاته على إيقاع تفعيلة ( بحرالرجز ) (مستفعلن) التي تطرأ عليها أحيانا علة نقص بحذف الثاني الساكن فتصير (متفعلن) ؛ فمثلا نجد في السطر الأول التقطيع الآتي " يا إخوتل / لذين يع / برون فل / ميدان مط / رقين من / " . وإلى جانب الإيقاع الخارجي نجد تنوعا آخر في الإيقاع الداخلي ؛ ونلاحظ ذلك بخصوص الروي ( ما بين النون والياء والهاء والكاف والعين والراء واللام والدال ) ، وذلك ملمح من ملامح تكسير معايير العروض الخليلي. وهو ما يضعنا أمام تنوع آخر يتعلق باختلاف القوافي ، فهناك القافية المركبة كما هو الحال بين الأسطر ( 8 ، 11 ، / 9 ، 14 / 13 ، 17 ) والقافية المتتابعة كما هو الحال بين الأسطر (5 ، 6 / 11 ، 12 ، 13 / 19 ، 20 / 21 ، 22 ) والقافية المرسلة كما في ( 1 ، 2 ، 3 / 7 ، 8 ، 9 ) . ومن مظاهر الإيقاع الداخلي كذلك ؛ تكرار بعض الحروف التي تشكل الأرواء ، وكذا تكرار بعض الألفاظ ذات الميزان الصرفي المتماثل مثل ( مطرقين ، منحدرين / مرة ، صخرة / الشجر ، الخطر / الجوع ، الضلوع / الربيع ، الصقيع / الظلال ، الرمال / سعيد ، جديد ) وهو ما يعرف في البلاغة التقليدية بالسجع . ويأتي تكرار ألفاظ بذاتها مثل ( إخوتي ، العام ، الهجير ، الرمال ، القيصر) وأحيانا نجد تكرار أسطر بكاملها .
أما الموقف الفكري من خلال التيمات المهيمنة في النص ؛ فيتجلى في التعبير عن إرادة التحرر باعتماد خطاب التحدي ، رغم أن التيمتين الملحوظتين في النص هما الانكسار / الخضوع ( مطرقين ، منحدرين ، في انحناء ) و القهر / الاستبداد ( الموت ، الفناء ، الشنق ، القتل ) . لكن موقف التمرد والتحدي والكبرياء يبدو من خلال ( لاتخجلوا / ولترفعوا عيونكم / رفعتم رؤوسكم مرة / لاتحلموا ) . وهكذا يمكن إدراك الرؤية الشعرية التي يمكن رصدها من خلال مواقف الشاعر ؛ وذلك عبر فهم الرسالة الإبداعية التي تعكس النظرة الواقعية للصراع بين العبيد والأسياد والتي لم يعد صاحبها يقتنع بالأماني الحالمة لحسم ذلك الصراع.
· الخاتمة :
بعد هذه المقاربة والتوقف عند تجليات تكسير البنية وتجديد الرؤية في الخطاب الشعري لدى أمل دنقل سواء على المستوى الهندسي للنص أو على المستوى الإيقاعي ( بالخروج على نمطية الشكل العمودي والنظم العروضي ) ، أو من حيث التصوير الفني المعتمد على لغة شعرية منتقاة بشكل دقيق وانزياحات استعارية ساهمت في تكسير أفق انتظار المتلقي في أكثر من موقع كما في قول الشاعر : ( إذا التقت عيونكم بالموت في عيني / يبتسم الفناء بداخلي ) ، ( سيزيف لم تعد على أكتافه الصخرة ) ، (يا قاتلي .. إني صفحت عنك / لكنني أوصيك ) ، ( فخلف كل قيصر يموت .. قيصر جديد ) . إضافة إلى كل تلك الملامح نجد التوظيف الدقيق والعميق لمعطيات التراث الإنساني من تاريخ وأسطورة ، وهو ما يخرق محدودية الاعتماد على تراث الهوية الجغرافية نحو انفتاح أرحب بل وأقرب من هموم الإنسان من أي طينة كان .
السبْع المعلّقات [مقاربة سيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - د.عبد الملك مرتاض
3- جماليّة الحيز في المعلّقات
فلماذا إذاً الحيز، وليس الفضاء؟
إننا نعتقد أنّ الفضاء أوسع من أن يشمل الحيز شمولاً تفصيلياً، وأشسع دلالة من أن يحتوي هذه المساحة الضيقة، أو المحدودة الأطراف، التي نودّ إطلاقها على مكان جغرافيّ ما، أو على ما له صلة بالمكان الجغرافيّ، على نحو أو على آخر. فالفضاء كلُّ هذا الفراغ الشاسع الذي يحيط بنا من الكون الخارجيّ. وهو أيضاً كلّ هذا الفراغ الهائل الذي يمتدّ من حولنا مع امتداد مدى أبصارنا. أمّا أن نطلق الفضاء على مكان محدود بالمساحة والمسافة تركض فيه أحداث رواية، أو تضطرب حَوالَه حركةٌ حيزيّة حيّة في قصيدة شعرية؛ فإننا لا نرى إتيان ذلك إلاّ من الحرمان، وقصور الذوق اللغويّ.
إن الفضاء، في تصوّرنا، نحن على الأقلّ لمدلول هذا اللفظ، أوسع من مدلول لفظ الحيز الذي نتصرف فيه، نحن، تبعاً لورود أطواره، وتعرض أحواله في النصّ الأدبيّ شعراً كان أم سرداً. ذلك بأننا نعدُّ كلّ جسم ناتئٍ، كأن يكون شجرة، أو نبتة، أو كرسياً، أو سيارة، أو حيواناً متحركاً، أو إنساناً ماشياً، أو هيئة للحركة في أيّ من مظاهرها، أو نهراً جارياً، أو وادياً متخدّداً، أو ربوة عالية، أو كثيباً بادياً، أو نخلة باسقة، أو خيوط مطرٍ هاتنة، أو حبّات ثلجٍ هاطلة، أو طريقاً مستقيماً أو ملتوياً: حيزاً.
ثم لا نزال نتصرف في ذلك ونتوسع حتى نُنْشِئَ من النخلة العَيْدَانَةِ المَتَرَهْيئَةِ حيزاً، ومن امتداد القامة واهتزاز هيئتها حيزاً، ومن الفَيْءِ الذي تحدثه الشجرة الوارفة الظّلال، تحت أشعة الشمس المتوهجة، حيزاً، ومن تلاطم أمواج البحر وتصاخبها حيزاً، ومن كلّ شيء يمكن أن يتحرك، فيُمَسَّ، أو يُلْمَسَ، حيزاً.
وإننا، وانطلاقاً من هذا التصور، نَمِيزُ المكان من الفضاء، كما نَمِيزُ الفضاء من الحيز، كما نميز الحيز من المجال، كما نميز المجال من المحلّ، وهلّم جرا.... فنطلق، في العادة، المكانَ على كلّ حيز جغرافي معروف (ولعلّ التعريفات الفلسفية تجنح لهذا أيضاً، ولكن في سياق آخر) على حين أننا نطلق الحيز على الأحياز الخيالية والخرافية والأسطورية، وما لا يمكن أن يقع تحت حكم الاحتواء الجغرافيّ بشكل واضح دقيق.....
ولقد كان لنا في ذلك تطبيقاتٌ كثيرة على النصوص الأدبيّة التي حلّلناها في كتاباتنا الأخيرة (1).
وللمكان، وللحيز بعامة، على الإنسان فضل الاحتواء، وشرف الاشتمال، فالحيز شامل والإنسان مشمول. وقل إن شئت، كما ورد في بعض التعريفات الإسلامية القديمة، فالحيز شاغل والإنسان به مشغول. فلا يمكن لأيّ كائنٍ حيّ، كما لايمكن لأيّ آلة أيضاً، أن تكون، أو تتحرك، إلاّ في إطار الحيز الذي استهوى تفكير الفلاسفة منذ القديم فحاولوا فلسفته، وتحديده، ومفْهَمته(2).
وإذا كان المكان بالمفهوم الماديّ المحسوس لا يكاد يعنى به إلاّ الجغرافيّون؛ وإذا كان المكان بالمفهوم العامّ المجرد لا يعنى به إلاّ الفلاسفة؛ فإن الحيز، كما نتصوّره نحن، عالم شديد التعقيد، متناهي التركيب، يتشكّل بلا حدود، ويتنوع في أفق مفتوح.... ومن العسير الانتهاءُ فيه، نتيجةً لذلك، إلى تعريف صارم، وحكم قائم. ولعلّ سعة مفهوم الحيز وامتداد أبعاد مدلولاته هما اللذان جعلانا نُعْنَى به من الوجهة الأدبية الخالصة فنجتهد في بلورة مفهومه ضمن إطار الأدب البحث، لا ضمن إطار الفلسفة المجرد؛ وضمن إطار الخيال المجنّح، لا ضمن إطار الواقع المحدَّد.
ولقد كان للحيز شأنٌ شريف في أخيلة قدماء الشعراء العرب حيث استرعى أخيلة شعراء أهل الجاهلية فكان له لديهم أهمَّيةٌ فبكَوْهُ من خلال بكاء آهِلِه، وأحبّوه ضمن حُبِّ قاطنه، وحزِنوا عليه عبر الحزن على مُزايله؛ فإذا الشعر الجاهليّ بعامة، والمعلّقات بخاصة؛ تعجّ بذكر الأحياز عجيجاً، وتلهج بسردها ومَوْقَعَتِها لهجاً. ولعلّ أشهر بيت في الأدب العربي على وجه الإطلاق وهو:
لقد خالفنا جماعة النقاد العرب المعاصرين في أنهم يصطنعون "الفضاء"، وفي أننا نصطنع "الحيز".
قفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ
|
|
بِسقْطِ اللِّوى بين الدّخول فَحَومَلِ
|
قائمٌ نسْجُه على ذكر الأمكنة، والحنين إليها، والازدلاف منها، والبكاء عليها، وبالتلذّذ بتردادها: فقرِنَتْ الحبيبة الذاهبة بالحيز الباقي، وبُكِيَتْ الراحلة بالمكان الدارس، والرسم البالي. ففي هذا البيت الذي يكمّله صِنْوُهُ الذي يليه، تصادفنا سلسلة من الأحياز الشعرية كأنّ النّاصّ كان يحرص أشدّ الحرص على أن يحدّد لنا من خلالها دار حبيبته، وموطن حبه، ومَسْقَطَ ذكرياته -أو لم نجده يُمَوقِعُ دار هذه الحبيبة بهذا المكان الذي لاتعرف الجغرافيا عنه شيئاً يذكر- وهو سِقْط اللِّوى- وإن كان الشعر قد يعرف عنه شيئاً يذكر...؟ ثم ألم تَمَوْقَعْ هذه الدار بين أربعة أمكنةٍ أخراةٍ كيما تكون هي واسطة عِقْدِها، ومركَزَ مَواقِعِها...؟
إنّ الشاعر العربيّ القديم لم يكن قادراً على قيل الشعر خارج المكان الذي كان يملأ عليه نفسه وروحه، ولا بالتخيّل خارج حبل الحنين العارم الذي كان يشدّه إلى هذا المكان شدّاً؛ فكان المكان، بالقياس إليه، بمثابة المادّة الكريمة التي يستمدّ منها إلهامه؛ بينما كانت الحبيبة، التي تقطنه، ثم تحمّلت عنه وزايلته إلى غير إياب، هي ينبوع الإلهام الثّرّ الذي كان يستلهمه: فيجهش بالبكاء، وتتبجّس نفسه بالحنين، ويطلق لسانه في الوصف، ويرسل ذاكرته مع الزمن الذاهب، والعهد الغابر، ثم لا يزال ينسج على الذكرى، والبكى، والحنين، نسوجاً متفرّعة عنها تقوم في وصف الناقة التي بفضلها استطاع أن يَعُوجَ على حيز الذكرى، ويَمرَّ دار الحبيبة المتحمّلة. كما تقوم في وصف البقرة الوحشية التي كانت تذكّره عيناها بعينيها؛ وفي وصف الرئم الذي كان يذكّره بياضه ببياضها، وجيدُه بجيدها، ورشاقته برشاقتها.... فحتى ما قد يَبدو، لأول وهلة، منفصلاً عن ملحمة المكان، بعيداً عن مناسبته، هو في حقيقته مُنْطَلقٌ منه، صابٌّ فيه، مُفْضٍ إليه. فلولا الناقةُ لما استطاع الشاعر الجاهليّ أن يعوج على طلل الديار المُقْفِرَةِ. ولكن ما كان ليكون لهذه الناقة شأنٌ لو ضربت به في أقاصي الأرض الشاسعة دون المَعاجِ على ذلك المكان الذي لم يكن يتجانَفُ عنه؛ وإنه كان، فيما يبدو، يتعّمد الجنوح له، والمَيْل عليه.
ذلك، وقد ذهب جميل صليبا إلى أنه لا تمييز في المعنى بين المكان والحيز(3). والأسوأ من ذلك أنه ذكر لفظ (espace) مرادفاً للمكان في عنوان مقالته، ثم لم يلبث، من بعد ذلك، أن أطْلَقَ عليه "المحل" أيضاً، وكتب مُقابِلَه الفرنسيّ بين قوسين وهو (lieu): ليتضح المعنى في الذهن، وليتبدّد الغموض من العقل. ونحن لا نوافقه على ذلك:
1- لأننا نرى أن المكان لا ينبغي أن يكون مرادفاً للفظ الفرنسي (espace) والانجليزيّ (space) والإيطاليّ (spazio)؛ إذ لا أحد من عقلاء الأمم الغريبة يطلق (le lieu) على (L’espace) ولا ( L’espace) على المكان إن ( Lelieu ) ليس المحلّ بالمفهوم الضيق، وإنما هو المكان.
وقد ألفينا الشيخ يعقد مادة أخراة في معجمه، تماشياً مع معجمات الفلسفة العالمية، تحت عنوان: "الأين" ويترجمها أيضاً بـ (lieu)(4). بيد أنه يلْبِسُه، تارة أخراة، بالحيز. ولم نجده خصّ هذا المصطلح بمادة على حدةٍ، كما كنا رأينا، حيث تناوله تحت مصطلح "المكان" الذي يبدو أنّ مفهومه ظلّ يلتبس، في المقررات الفلسفية العربية، بالمحلّ والحيز التباساً شديداً على الرغم من وجود بعض الإشارات التي توحي، في مقررات الفلاسفة المسلمين، بجزئيّة الأين، وكلية المكان.
وكنّا نودّ لو أنّ مصطلح (espace) ترجم تحت مصطلح الحيز الذي نتعصب له وننضح عنه، ومصطلح (lieu) تحت مصطلح المكان. وكنّا نودّ لو أنهم دقّقوا في شأنه تدقيقاً صارماً في ضوء المفاهيم الفلسفية المعاصرة التي بلورت إلى حدّ بعيد. وبدون ذلك، وفي انتظار ذلك أيضاً، سيظلّ الالتباس شأننا، والخلط سيرتنا، في اصطناع هذه المفاهيم التي هي موجودة، أصلاً، في التراث الفكري العربي الإسلاميّ؛ وإنما الذي ينقصها هو التطوير والتدقيق، والتوسعة والبلورة.
وإذن، فإننا نعتقد بسوء الترجمة التي اجتهد فيها جميل صليبا فاتخذها مقابلاً للمصطلح الغربي (Espase).وقد نشأ عن هذا المنطلق الذي نعتقد أنه خاطئ، تصوّر خاطئ، والشيخ يعرف هذا حقّ المعرفة.
وفي هذه الحال، قد يكون مصطلح "الفضاء" حين يتخذه النقاد العرب المعاصرون مرادفاً لـ (l’espace): أهون شرّاً، وأخفّ ضرّاً، وإنما تردّدنا، نحن، في متابعة أولاء النقاد في اصطناع هذا المصطلح لما أحسسناه، من الوجهة الدلالية، من سعة معناه؛ فهو عامّ جداً. وإذا كان النقاد الغربيون يصطنعون مصطلح (l’espasce)، فلأنهم لا يريدون به حتماً إلى المكان، ولا إلى الفضاء بمعناه الشامل أيضاً؛ حيث كيّفوه فصرفوه في مصارف ضيقة فأفادوا من هذا الصرف. من أجل كلّ ذلك ترجمناه نحن بـ "الحيز" (5) لاعتقادنا بأنه بمقدار ما هو ضيّق الدلالة أو دقيقها حين ينصرف الشأن إلى معنى المكان؛ بمقدار ما هو أشدّ تسلطاً، وأقدر قدرة على التنّوع الدلاليّ الذي وضع له بحيث لا يمتنع في الغرب، كما لا يمتنع في دلالة الحيز، بالمعنى الذي نريده له، أن يتمطّط ويتمدّد، ويتشعّب ويتبدّد، ويتحرك نحو الوراء كما يمكنه أن يتحرك نحو الأمام، ويَصَّاعَدَ إزاء الأعلى كما يهوي إزاء الأدنى: ينكمش كما ينطلق، ويتقلّص كما يتطالل.
وقد تعامل الفلاسفة المسلمون، ولكن بشيء من الغموض الذي لايُنْكَر؛ فهو لدى ابن سينا مثلاً: "السطح الباطن من الجرْم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر للجسم المَحّوِيّ" (6). فالمكان لدى ابن سينا إذاً: سطح يتفرع عن السطح الأصليّ (الظاهر) الذي يَظْرِفُ الجسم (ولعل الجسم هنا بالمفهوم الفيزيائي، لا بالمفهوم المعجميّ البسيط). فكأنّ المكان لديه جزء مِمَّنْ، أو ممّا، يتجزّأ في المكان. أو قل: هو بعضٌ أدنى، لكلّ أعلى؛ أو جزء باطن، لكلّ ظاهر. فالحيز لديه (وذلك إذا حقّ أن نمرق به عن المتصوّر في ذهن ابن سينا أصلاً) كأنه مجرد هيئة محدودة في المكان؛ فالمكان أعمّ منها وأشمل؛ فما قولك في الفضاء الذي زعمنا أنه أوسع سعةً في الدلالة من المكان. ولو ذهبنانتلطّف في قراءة تعريف ابن سينا للمكان لألفيناه يدنو به إلى أدنى مستواه الدلاليّ. وكأنه كان يريد به، في منظورنا، إلى الحيز فطفر في تعبيره المكان.
وأيّاً كان الشأن، فإنّ المكان لدى جميل صليبا هو الحيز نفسه بصريح عبارته (7). لا فرق بينهما و لاتمييز. ولا اختلاف في معناها ولا ابتعاد. هذا ذلك، وذلك هذا. فأيّما مفكّرٍ اصطنع الحيز فهو إنما يريد، أو يجب أن يريد، إلى معنى المكان. وأيّما ناقد استعمل المكان في كتابته، أو تفكيره، فهو إنما يريد غالباً إلى الحيز. وهذا أمر لانتفق معه عليه.
وإذا كان علماء الكلام كانوا يرون أنّ الحيز، أو المكان (ما دام الفلاسفة العرب المسلمون، فيما يبدو، لم يميزوا المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان بدقّة معرفية صارمة) هو "الفراغ" المتوهّم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده"(8)؛ فإننا نلاحظ على هذا التعريف:
1-أنهم يصطنعون "الفراغ المتوهم"، وكأنهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك إلى أنّ الحيز لا يَرِدُ على الحقيقة؛ وإنما يَرِدُ على التخيّل والتوهُّم. وكأنه ينشأ عن هذا أنّ هذا التعريف أليق بالحيز كما نتمثله نحن في الأدب، منه بالفلسفة التي تنشد الدقة والإحاطة والصرامة والشمول الذي لا يغادر شيئاً ولا يتّركه إلاّ قرّره وناقشه.
2-إنّ هذا "الفراغ المتوهّم" يجب أن يضادّه "الفراغ المدرَك". فكان الأولى، في تصورنا، اصطناع هذا المصطلح الموصوف؛ إذ كان لفظ التوهّم، في اللغة العربية، منصرفاً لمعاني الغلط، وسوء الإدراك، والإغراق في السهو، والوقوع في التخيّل الشاحب أكثر مما هو منصرف إلى الدلالة والإدراك الدقيق (9).ولعلّ الآية على ذلك قول زهير:
فلأياً عرفْتُ الدارَ بعد تَوَهُّمِ*
|
حيث إن المعرفة والإدراك جاءا بعد معاناة التوهّم، ومكابدة التخيّل. وإذاً، فإنّا لا ندري كيف يَلْبِسُ هؤلاء المتكلمون التوهّم بالتحقّق، ومجرّد التخيّل بالإدراك الصارم؟
3-أنهم يربطون هيئة هذا الفراغ، وهو غير الحيز لدينا (إذ ما أكثر من يكون الحيز في تمثّلنا عامراً لا خاوياً، وممتلئاً لا فارغاً) بوجود جسم ما يشغله ويملؤه. فكأنّ المكان لديهم كلّ حيز مشغول بجسم متشِكّل فيه، ماثلٍ فوق سطحه.
على حين أنّ المكان لدى الحكماء الإشراقيين يتمثلونه "بعداً منقسماً في جميع الجهات، مساوياً للبعد الذي في الجسم، بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، سارياً فيه بكلّيّته"(10).
ولا نحسب أنّ هذا التعريف يبتعد كثيراً في إجماله عن تعريف المتكلّمين؛ وإنما يختلف عن تعريفهم في تفصيله؛ إذ تصوّر الإشراقيين للمكان أنه يتساوى، ضرورة، بَعْدُهُ بالبُعْد الذي في الجسم. فكأنّ المكان لا تتجسّد كينونته إلاّ بالكائن فيه؛ فتساوي بُعْد المكان بالبعد الكائن فيه لا يعني إلاّ بعض ذلك.
والحق أَنّ هَذا التعريف لا يكاد يختلف عن التعريف الشائع في الفلسفة العامة (11)؛ وإنما المزعج في تمثّل الفلاسفة المسلمين هو عدم مَيْزِهِمُ المكان (lieu) من الحيز (espace) والحيز من المكان؛ مع أنهما مفهومان مختلفان في مقررات الفلسفة العامة؛ إذ كلّ منهما يذكر في بابه، لا في باب الآخر (12).
من أجل ذلك لا نحسبنا مغالطين حين كنا زعمنا أنّ المفكرين العرب بعامة، والمحدثين منهم بخاصة، لا يكادون يَميزون المكان من الحيز، ولا الحيز من المكان، ولا المكان من المحل، الذي قرر فيه جميل صليبا ما قرر حين كتب: "المكان الموضع، وجمعه أمكنة، وهو المحل (lieu) المحدد الذي يشغله الجسم" (13). بينما نلفيه يطلق لفظ "lieu" الفرنسي، في موطن آخر، على الأين، في معجمه (14): فبأيّ القولين أو الأقوال نعمل؟ وما هذا الخلط المبين؟
إنّ الحيز، لدينا، لا يرتبط وجوده ولا مثوله، ضرورة، بالجسم الذي يشغله؛ لأننا نعدّ هذا الجسم الذي يشغله في حد ذاته حيزاً قائماً بنفسه فيه؛ فالشجرة لدينا من حيث هي هيئة نباتيّة تتكوّن من جذع وأغصان وفروع وأوراق: حيز يشغل مكاناً (وهذا المكان يشغل فضاء، وهذا الفضاء يشغل كوناً) إلاّ أنّ المكان لايكون إلاّ بهذا الحيز. فالحيز متفرّع، في تصوّرنا، عن المكان. فالمكان أصل ثابت، قائمٌ، باقٍ، لأنه مستقرّ الكينونة ذاتها، ولأنه موئل للكائنات من حيث هي لا تستطيع أن تُفْلِتَ من قبضته: صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو غير عاقلة. فكما أن المَقام (بفتح الميم) مستقرّ للقيام من حيث هو هيئة حيزية، فإنّ المكان مستقرّ للكيان من حيث هو؛ فلا كينونة إلا بمكان. ولا مكان إلاّ بكينونة. فهما متلازمان لا يفترقان. بينما الحيز مجرد هيئة تعرض عبر المكان ذاته. من أجل ذلك ألفينا أرسطوطاليس يقرر، منذ القدم، أنّ المكان لا يتحرك، وأنه محيط بالشيء الذي فيه، وأنه ليس بجزء مما يحتويه (15). وإذا كان المكان ثابتاً باقياً، فإنّ الحيز عارض ناشئ طارئٌ فانٍ؛ وهو قابل للتغير والتبدل، والتمظهر والتشكّل.
خذ لذلك مثلاً آخر الشخصية الروائية حين تتنقّل في حيزها من نقطة (1)، ثم تتوقف إما للاضطرار، وإما على سبيل الاختيار في نقطة (ب)، لتنتهي إلى نقطة (ج) حيث تقضي حاجتها، ثم تعود إلى نقطة (ا)، ولكن عن طريق نقطة(د)، لا عن طريق نقطة (ب): فإننا نعدّ حركتها هذه حيزاً متحركاً عبر المكان.
فنحن إذاً، وبنعمة الله، نختلف مع الفلاسفة المسلمين الذين يربطون وجود المكان بالجسم الذي يشغله، فالمكان لديهم غائب ومنعدم خارج شغل الجسم إياه. ذلك ما فهمناه من مضمون تعريفهم ومنطوقه أيضاً. كما نختلف مع النقاد العرب المعاصرين الذي لا نراهم يتعاملون، في الغالب، إلاّ مع المكان الجغرافيّ (في التحليلات المُنْجَزَةِ حول السرديات مثلاً). أما حين يَمْرُقون به عن هذا الإطار، ويتناولون به الشعر تحت مصطلح "الفضاء"، فإننا لم نُلْفِهِمِ، وذلك في حدود إلمامنا بكتاباتهم التي يكتبون، تناولوا مفهوم الفضاء، من حيث هو مصطلح كما أرادوه أن يكون، فعرّفوه، وبلوروا دلالته انطلاقاً من الدلالة المعجمية إلى الدلالة المُصْطلحاتيّة.
إن الحيز، كما نتصوره نحن، هو هيئة تتخذ لها أشكالاً مختلفة لا نهاية لتمثّلها: فتعرض لنا ناتئة ومقَعَّرةً، ومسطّحة، ومستقيمة، ومعوّجة، وعريضة، وطويلة؛ كما تمْثُلُ لنا في صورة خطوط، وأبعاد، وأحجام، وأوزان، دون أن ترتبط، بالضرورة، بما، أو بِمَنْ، فيها.
ذلك، وأنّ في البادية العربيّة، أو في الحيز العاري، أو في الحيز المفترض كذلك: قد نلفي كلّ شجرة ذات دلالة، وكلّ نبتة ذا معنى، وكلّ صخرة ذات شأن، وكلّ منعطف طريق ذا مغزى، وكلّ عين ماء ذات خبر، وكلّ كثيب رمل ذا خطر.... حيث الحيز، ضمن ذلك الفضاء المنساح، هناك، أساس العلاقات بين الناس، وأساس التفكير في معنى الوجود، بل أساس العبادات والازدلاف إلى الله...
ذلك بأنّ العرب كانوا يثوون بأرض براح، فلم يكن يحول بينهم وبين تلك الأحياز العارية في كثير منها، حائل، ولم يكن يحجز بينهم وبين تلك الأمكنة المتنوعة المناظر حاجز: فكانت ألصق بقلوبهم وأعلق بنفوسهم، وأمثل في أبصارهم وبصائرهم فلا تكاد تمحّي منها أو تزول. ذلك إلى ما كانوا يحيونه فيها، أو في بعضها على الأقلّ، من جميل الذكريات، وما كانوا يقضّونه فيها من معسول اللحظات...
وللأحياز في هذه المعلّقات السبع حقّ علينا أن نصنّفها، انطلاقاً من قراءتها، لنرى ما كان يربطها، وما كان يناسب بينها: إذ هناك أحياز دالّة على المياه، وأخراة دالّة على الطرقات والمسالك، كما نلفي أحيازاً دالّة على الروابي والجبال، وأخراة دالّة على التلدات وكثبان الرمال....
وليس غريباً أن يكون للحيز شأن أهمّ في حياة أولئك الأعراب البادين من الحيز لدينا نحن اليوم الذي أصبحوا يتنقّلون في المدن الكبرى بباطن الأرض، ويسافرون بين القارات، وربما بين المدن المتقاربة أو المتباعدة، في الجوّ..... فلم يعد للحيز، كما نرى، في حياتنا الروحية والعاطفية والاجتماعية ما كان له في أخيلة أولئك الشعراء وعواطفهم الجياشة، ومشاعرهم الفياضة.
وعلى الرغم من أنّ شعراء المعلّقات كثيراً ماكانوا يذكرون أماكن جغرافيّة لا تبرح معروفة إلى يومنا هذا مثل الحجاز، والعراق، ودمشق وقاصرين، واليمامة، وبعلبكّ، ونجد.....، وأماكن مقدّسة في الجاهليّة والإسلام مثل البيت الحرام، وأماكن مقدّسة في الجاهلية فقط إذ ترتبط بالطقوس الوثنيّة مثل صنم دوار: فإنّ الأغلبيّة الغالبة من الأمكنة الأخراة تنضوي تحت الحيز الشعريّ المحض.
ولقد بلغ عدد هذه الأمكنة في المعلّقات زهاء ثلاثة ومائة موزّعة خمسة وعشرين حيزاً في معلّقة امرئ القيس وحدها، وثلاثة وعشرين في معلّقة الحارث بن حلّزة، وتسعة عشر لدى لبيد، واثني عشر لدى زهير، وعشرة لدى عنترة وعمرو بن كلثوم، بينما لم يرد في معلّقة طرفة إلاّ أربعة أحياز فحسب.
ذلك، وأنّا لاحظنا أنّ هناك أحيازاً يشترك في ذكرها أكثر من معلقاتيّ واحد، مثل: وجرة: التي يشترك في ذكرها امرؤ القيس ولبيد،
وتوضح: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس ولبيد أيضاً.
والقنان: الذي يشترك في ذكره امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى (وورد لدى زهير مرتين اثنتين).
والمتثلّم: الذي ورد ذكره لدى زهير وعنترة.
وبرقة: التي وردت في معلّقتي الحارث بن حلّزة وطرفة بن العبد.
وخزازى: الذي اشترك في ذكرها، أو ذكره، الحارث بن حلّزة وعمرو بن كلثوم.
فهؤلاء المعلّقاتيّون يشتركون في ذكر أمكنة بأعيانها؛ ممّا يدلّ على وحدة الثقافة، ووحدة الخيال؛ كما يشتركون في ذكر أحياز كثيرة تختلف من معلّقاتيٍّ إلى آخر، إلاّ أنّ الاشتراك في ذكرها، والحرص على سردها: قد لايعني إلاّ شيئاً واحداً، من منظورنا الخاصّ على الأقلّ؛ وهو وحدة الخيال -كما أسلفنا القال- لديهم، ووحدة التقاليد الشعرية في ممارساتهم؛ وإلاّ فَلِمَ لم يَشُذَّ واحدٌ منهم عن البكاء على الديار، وعن النسيب بالنساء؟ وإذا كان عالي سرحان القرشي يذهب إلى انعدام وحدة الرؤية الفنيّة في المعلّقات السبع (16)؛ فإننا لا نذهب مذهبة، ولا نتقبّل رأيه الذي تدلّ بعض مقررات مقالته على ضده، وذلك حين يقرر، ضمنيّاً، وحدة الرؤية الفنية في المعلّقات السبع من حيث يقرر منطوقاً مغايرتها واختلافها إذ يقول:
"ولو نظرنا إلى كلّ قصيدة من المعلّقات على حدة، لوجدنا لكلّ معلّقة بناء مغايراً لبناء المعلّقة الأخرى، حتى وأن تشابهت في بعض الجزئيّات مع المعلّقات الأخرى" (17).
وإنّا لنختلف معه، لأنّنا كنّا حاولنا إثبات الوحدة الفنيّة والبنوية (ولا نقول البنائيّة لأنّ البناء عامّ، والبنية خاصة. والغربيّون يَمِيزُونَ هذا من ذلك مَيْزاً كبيراً....) في المقالة التي وقفناها، ضمن هذا البحث، على بنية الطلليّات المعلّقاتيّة....
ولا ينبغي أن يُنْظَرَ إلى مسألة اختلاف بنية المعلّقات نظرة سطحيّة، أو عجلى؛ إذ لو جئنا نتابع اللغة الفنيّة، أو حتى اللغة في مستواها المعجميّ البَحْت؛ لألفينا أولاء المعلقاتيين يلتقون التقاء عجيباً في اصطناع اللغة الشعرية (18)، وفي لغة الوصف، وفي لغة الألوان، وفي الإيلاع الشديد بذكر مواطن الماء
(وقد أومأ إلى بعض الأستاذ سرحان نفسه، وإن لم يذكره في السياق الذي نودّ نحن ذكره فيه)، وفي الكَلَف الشديد بذكر الأحياز المتفِقَةِ الأسامي، أو المتشابهتها، وفي الإيقاع الشعريّ (أربع معلّقات وردت على إيقاع الطويل مثلاً)(19). يضاف إلى كلّ ذلك المضمون الحضاريّ العامّ: الطلل -المرأة -الناقة- الفرس- البقرة الوحشيّة- الظبي والرئم- النعامة....
فلا معلّقاتيّ يختلف عن الآخر إلاّ بما حبته به الطبيعة من تفرّد ذاتيّ ضيّق، أمّا البناء الفنيّ العامّ للقصيدة الجاهليّة بعامة، والقصيدة المعلّقة بخاصة؛ فإنه كان متشابهاً متقارباً، يكاد يغترف من ثقافة شعريّة واحدة، ويكاد يصف بيئة اجتماعية، وجغرافية أيضاً، واحدة. فقد كانت، إذن، مواقفهم، وأحداثهم، ومشاهدهم، وصورهم، ومعانيهم، وتعابيرهم، وتجاربهم، وتقاليدهم، ورؤيتهم إلى العالم، وإدراكهم للكون: تَتَشاكَهُ تشَاكُهاً يوحي بصدور هذا الأدب عن عقل متّحد، وفكر جماعيّ ذي مصدر متشابه. ذلك بأنّ المعاني والصور والتعابير والتراكيب تبدو أناشيد جماعيّة "أبدعها عقل الأمة، ونظمها ضميرها" (20).
إنّ المعلّقات تنهض على بنية ثلاثيّة، كما كنّا عالجنا ذلك بتفصيل في المقالة السابقة، تتمثّل خصوصاً في الطلل، والمرأة، ثم: إمّا في الناقة، وأما في الفرس، وأما في مضمون آخر: فهناك إذن: ا+ب: وهما عنصران -ربما- لايخطئان حتّى معلّقة عمرو بن كلثوم التي استثناها الأستاذ القرشي.... فهما إذن عنصران ثابتان، ثم ترى الشاعر المعلقاتي يثّلث بمضون قد يتفق فيه مع سَوائِهِ (الناقة: طرفة- لبيد- عنترة، والفرس: امرؤ القيس- عنترة- وربما عمرو بن كلثوم، والحرب: زهير- الحارث بن حلّزة- عمرو بن كلثوم)....
وأمّا مسألة شذوذ عمرو بن كلثوم في أنه لم يذكر الطلل، فإننا نعتقد أنّ هذا الاستثناء يقوم إذا تابعنا الترتيب الوارد لدى الزوزنيّ لهذه المعلّقة التي نعتقد أنّ ترتيبها يحتاج إلى إعادة ترتيب.... ذلك بأنّا نعتقد أن المطلع الحقيقيّ لهذه المعلّقة هو:
قفي قبل التفرق يا ظعينا
|
|
نُخَبِّرْك الِيقينا وتُخْبِرينَا
|
قفي نسألْكِ هل أحدثْتِ صَرْماً
|
|
لِوَشْكِ البَيْنِ أم خُنْتِ الأَمينا؟
|
ليأتي من بعد ذلك:
ألا هُبّي بصحنِكِ فاصْبَحينا
|
|
ولا تُبْقي خُمور الأندرينا
|
ليأتي:
وأنّا سوف تدركنا المَنايا
|
|
مقدّرةً لنا ومُقَدَّرينَا
|
قبل:
بيوم كريهة ضربا وطعنا
|
|
أقَرَّ به مواليك العيونا
|
فتكون بنيةُ هذه المعلّقة قائمةً على التزام الوقوف على الطلل مضموناً يدلّ عليه منطوقه:
قفي قبل التفرّق يا ظعينا
|
|
نُخَبِّركِ اليقينا وتُخبْرِينا
|
فهذه المرأة كانت ظاعنة لا مستقرّة، أزمعت الفراق، وآذنته بالبين، فتحمّلت في خدرها، عن حيّها.... فامرؤ القيس يتحدث عن البين:
كأنّي غداة البين يوم تحملّوا
|
|
لدى سَمُراتِ الحيّ ناقفُ حنظل
|
وعمرو بن كلثوم يتحدث عن وشك هذا البين:
لو شك البين أم خنتِ الأمينا؟
|
يوم ركبت الحبيبة ناقتها، وأزمعت التّظعان، وهمّت بالتَّزيالِ: فأين البَوْنُ، في هذا البين؟ شاعر جعل البين في الماضي فسرد وحكى، وشاعر آخر جعله في الحاضر فتساءل واستخبر أحدهما يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
|
وأحدهما الآخر يقول:
الوقوف، والبين، والكشح، والمتن، وطول القامة، والساقان... فأين البَوْنُ، تارة أخراة؟ وعلى الرغم من أنّ الناس سيعترضون على هذا الترتيب الجديد الذي اقترحنا إجراءه على معلّقة عمرو بن كلثوم، وأن المطلع الذي جاءت عليه لدى الأقدمين هو المطلع الصحيح؛ فإننا لا نرى حلاًّ لهذه المسألة الفنية -إلحاق معلّقة عمرو بن كلثوم بمجموعة المعلّقات- غير إجراء هذا التغيير على ترتيبها... ولعلّ حجتنا في ذلك أنّ كافّة المعلّقاتيّين ممّن تحدثوا عن الخمر، مثل عنترة وطرفة، لم يبدأوا معلّقاتهم بالحديث عن الخمر، وإنما بدأوها بالحديث عن الطلل والمرأة، فكيف يشذّ عنهم عمرو بن كلثوم، والحال أنّ شعره الذي اقترحناه مطلعاً لمعلّقته وارد فيها؟ ألا يكون ذلك مجرد اضطراب وقع في الترتيب؟ وإلاّ فإنّ هذا الشعر أسهل ألفاظاً من أن يكون جاهليّاً!....
وأيّاً كان الشأن، فإنّ الثقافة الشعريّة واحدة لدى المعلّقاتين، حتى فيما قد يبدو لنا مختلفاً، فلا يمكن فهم معلقّة امرئ القيس إِلاّ في صَبِّهَا في الخضمّ الشعريّ المعلّقاتيّ العامّ؛ كما لا يمكن فهم زهير في تأملاته إلاّ بقرن شعره ببعض شعر طرفة، ولا فهم معلّقة الحارث بن حلّزة إلاّ في الإطار التاريخي والقَبَليّ للسياق الذي وردتْ فيه معلقة عمرو بن كلثوم، وهلمّ جرا...
فالمعلّقات مدرسة شعريّة، ولا ينبغي أن تُدْرَسَ إلاّ ضمن هذا المنظور الفنيّ، وضمن وحدة التصور لدى المعلقّاتيّين؛ إذ كانت تضطرب في مُضْطَربٍ حيزيّ واحد، وتَدْرُجُ ضِمْنَ وحدةٍ زمنيةٍ واحدة أيضاً. فمعظم هذه المعلّقات قيل في قرن واحد، وفي بلاد العرب، فكيف يمكنُ مدارَسَتُها منفصلة عن بعضها بعض، والتماس مواطن الاختلاف بينها على أساس تفرّدٍ غير واردٍ، وتميّز غيرِ ماثلٍ. إنّ كلّ ما في الأمر أنّ المعلّقاتيّ قد يختلف عن الآخر في تفاصيل بعض المضامين المتناولة كتفرّد امرئ القيس بوصف الليل، وتفرّد لبيد بوصف البقرة الوحشية... ولكنّ الاختلاف الفنيّ لا ينبغي أن يُلْتَمَسَ في مثل هذه التفاصيل المضمونيّة، ولكن يلتمس في مستوى البنية العامة للمعلّقة التي تظلّ، في رأينا، هي هي: لدى هؤلاء مثل لدى أولئك، في معظم تماثلاتها الفنية.... وفيما يلي نحاول متابعة الأحياز وأنواعها التي وردت في المعلقات.
أولاً: الحيز المائل:
لقد صادفتْنا أحياز كثيرة تضطرب في الماء- كما سيستبين ذلك بالتفصيل في المقالة التالية من هذا البحث- أو تحيل على ماء، وتركض في سائل، أو توحي بمثولها فيما له دلالة على هذا السائل. ونحن حين ندارس الحيز لا نريد أن نحلّله على ظاهره، ونمضي عنه عِجَالاً؛ ولكننا نريد أن نتوقف لديه توقّفا، ونسائله مُساءَلَةً، ونَلوُصه على ما رَسَمْنا نحن في ذهننا من تأويليّة القراءة الأدبيّة التي هي حقّ أدبيّ مشروع للناقد إلى يوم القيامة.
فنحن حين نقرأ، كما يذهب إلى بعض ذلك امبرتوايكو(21)، لا ينبغي، وبالضرورة الحتميّة، أن نهتدي السبيلَ إلى ما كان يريد إليه الناصّ من نصّه؛ فإنما الذي يزعم شيئاً من ذلك هو، حتماً، مكابِرٌ أو مغالط؛ ولكننا، إذن، نقرأ النص على أساس ما نريده له نَحْن... بيد أنّ ذلك لا ينبغي له أن يكون خارج سياقه، ولا بعيداً عن إطار مضمونه...
ولولا أن لكلّ شيء حدّاً، وما جاوز الحدّ انقلب إلى سوء الضدّ؛ لَكُنَّا أَقدمنا على إِملاء مجلّد كامل في أنواع الحيز في المعلّقات... ومن أجل أن لا نقع في بعض ذلك، سنجتزئ بالتوقّف لدى نَماذِجَ قليلةٍ من أصناف هذا الحيز لِنَذَرَ لِمَنْ شاء أن ينسج على نهجنا المجال مفتوحاً...
* ولا سيّما يوم بدارة جلجل:
لقد ذهب الأقدمون، ومنهم ابن قتيبة(22)، والقرشي(23) إلى أنّ دارة جلجل غدير ماء كان يقع"بين شعبى وبين حسلات، وبين وادي المياه، وبين البردان -وهي دار الضباب- ممّا يواجه نخيل بني فزارة... وفي كتاب جزيرة العرب للأصمعي: دارة جلجل من منازل حجر الكندي بنجد" (24). ويبدو أنّ الناس كانوا يستحمّون فيه، وكانوا، فيما يبدو، يوردون إبلهم وأنعامهم فيه. وربما كانت العذارى يُيَمِمّنَه لينغمسن فيه، ويستمتعن بمائه تحت وهج شمس نجد، وَكُلْبة حرارتها، وأوج حمارتّها.
ونحن لم نر حكاية أدنى إلى المشاهد السينمائيّة منها بالحقيقة من حكاية دارة جلجل. فهي كما رواها الفرزدق عن جده -وهي الرواية الوحيدة التي ترددت في المصادر القديمة(25)- لا تخلو من تناقض:
فالأولى: كيف يحقّ لامرئ القيس، هذا الفتى الذي كان موصوفاً، أو كان يصف نفسه، بالإباحيّة والمجون أن يفضح سرباً من حسناوات الحيّ فيهِنَّ ابنةُ عمه فاطمة؟ وهل كان العربيّ يسمح بأن يهان شرفه إلى هذا الحدّ؟ وهل قتل عمرو بن كلثوم عمرو بن هند إِلاّ لأَنَّ أمه أرادَتْ أن تصطنع ليلى-أم عمرو بن كلثوم- حين التمست منها مناولتها الطبق(26)؟ فكيف يجرؤ العربيّ على قتل ملك همام من أجل هذه الحادثة، ولا يقتل حين تعرّى أخته أو حليلته أو ابنته اغتصاباً، وتهان في شرفها، والشمس متوهّجة، والنهار في ضحاه!؟
أَيْما ما قد يعترض به علينا مُعْتَرِضٌ -ولو على وجه الافتراض والتوقع- من أنّ امرأ القيس كان أميراً، ولم يكن أحد بقادر على أن يعرض له بسوء؛ فإننا نعترض عليه، كما اعْتُرِضَ علينا على سبيل الافتراض على الأقلّ، بأنّ إمارته لم تكن بقادرة على أن تشفع له في أن يفعل ذلك؛ وأنّ إمارته، على كلّ حال، كانت نسبيّة، كما كانت ملكيّة أبيه على بني أسد نسبية أيضاً؛ إذ لم يكن أبوه، في تمثّلنا، أكثر من شيخ قبيلة في حقيقة الأمر؛ وإلاّ فأين آثار مملكته، ومخلّفات حضارته؟ ثم من كان أعزّ نفراً، وأحدُّ شوْكاً، وأرفع قدراً: عمرو بن هند ملك الحيرة أم الملك الضلّيل؟
وإذن، فالضعف الأوّل يأتي إلى هذه الحكاية من هذه الناحية.
والثانية: كيف يتفرّد النساء هذا التفرّد بالمسير فلا يخبر بشأنهنّ عبد، ولا تشي بأمرهنّ أمة:
يتخلّفن وجهاً كاملاً من النهار دون أن يقلق على مصيرهنّ رجالهنّ فيسألوا عنهنّ...؟
والثالثة: كيف تتحدث حكاية دارة جلجل عن العبيد الذين جمعوا الحطب، وأجّجوا النار، فكان امرؤ القيس"ينبذ إلى الخدم منذلك الكباب(المتّخذ من لحم المطيّة المذبوحة للعذارى) حتى شبعوا"(27)؟ وهل كان الشَّيءُّ للحِسَانِ، أم للإماء والغلمان؟ ثمّ كيف تسكت الحكاية و عن ذكر أيّ أنيس من الرجال، لدى إِرادة انغماس الفتيات في ماء الغدير، ولدى إصرار امرئ القيس على أن لا يسلّم أياً منهنّ ملابسها إِلاّ إذا ما خرجت من ماء الغدير عارية، واستعرضت جسدها أمامه مقبلة ومدبرة، وكما ولدتها أمها!.. ثمّ فجأة يظهر العبيد حين يقرر الشاعر نحر مطيّته للنساء؟ ألم يكن ظهور هؤلاء العبيد لمجرد غاية فنيّة، لا من أجل غاية واقعيّة حتّى تجنّب الحكاية امرأ القيس تكلّف جمع الحطب على أساس أنه سيّد أمير، وتجنّب، في الوقت ذاته، أولئك النساء اللواتي كنّ يصطحبن فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس على أساس أنهنّ سيدات عقيلات، لأنهنّ رفيقات ابنة عمّ الأمير المزعوم؟ (وإن كنّا ألفينا رواية ابن قتيبة تومئ إلى وجود عبيد كانوا مع النساء، ولكن كيف ظلّ دور العبيد منعدماً على هذا النحو....؟)
والرابعة:إنّ مطلع الحكاية يوحي بأنّ أولئك النساء كنّ مسافرات إلى حيّ آخر من ذلك الوجه من الأرض، على حين أنّ آخرها يوحي بأنهنّ أُبْنَ إلى حيّهنّ، وأن سفرهنّ لم يتمّ، وأن الرحلة لم تحدث، وأنهنّ لم يعدن إلى حيّهنّ حتى جَنَّهُنَّ، والشاعِرَ، الليلَ(27): فما هذا الخلط العجيب، والتناقض المريب؟
والأخراة، إنّ أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشيّ يذهب إلى أنّ صاحبة دارة جلجل هي فاطمة ابنة عمّ امرئ القيس(28)، بينما يذهب ابن قتيبة إلى أنها فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة ابن عامر العذرية(29)، على حين أنه كان يعدّ عنيزة"هي صاحبة دارة جلجل" (30). وإنما يدلّ هذا الخلط، وسوء الضبط، على شكّ في الصحّة، وريبة في الرواية: لذهاب الرجال، وانقطاع الزمان، وخيانة الذاكرة، وفساد الرواية.
وعلى أننا لا نريد أن نذهب إلى أبعد الحدود في البرهنة على أدبيّة هذه الحكاية وخياليّتها، وأنّ مسألة دارة جلجل مجرد حكاية جميلة إن وقع بعضها على نحو ما، فإنّ باقي ما ذكر من تفاصيلها لا يمكن لعاقل أن يصدّقه بِجَذاميره، ولا أن يتقبّله بحذافيره.
ونعمد الآن إلى تحليل بعض هذا الحيز المائيّ، ليس على أساس ما نعتقد من أسطوريتّه، ولكن على أساس ما اعتقد الناس من صدق واقعيّته. والحق أننا، بعدُ، شَرَعْنَا في بعض هذا التحليل حين حاولنا تناول الخلفيّة التاريخيّة، والأسس التاريخانِيّة، لا التاريخيّة، لهذه الحكاية الجميلة وحيزها البديع.
1. إننا نلاحظ أنّ النساء اللائي تعاملن مع هذا الحيز المائيّ الجميل لم يكنّ عجاِئَز شُمْطاً، ولا هِرَماتٍ شُعْثاً؛ ولكنّهنّ كنّ حِساناً رائعاتِ الجمال، باديات الدلال، نحيلات الخصور، طويلات القدود، سوداوات العيون، مشرقات الثغور، منسدلات الشعور.
2. إنهنّ كنّ مخدومات منعَّماتٍ، وثريّات مُوسِرَاتٍ، وإلى بعض ذلك أومأتْ رواية ابن قتيبة إِذْ ذكرت أنّ أولاء الفتيات"نزلن في الغدير، ونحّين العبيد، ثم تجردّن فوقعن فيه"(31).
3. لعل من الحقّ لنا أن نتمثّل هذا الغدير فنتصوره بمثابة مسبح صافٍ ماؤُه، أزرق لونه، وأنه، من أجل ذلك، لم يك حِمْئاً ولا مَوْحَلاً: تسوخ فيه الأقدام، ويتحرّك الماءُ والطين فيه فتتّسخ له الأجساد إذا غطست... بل كان إذن حيزاً مائِياً غيرَ ذلك شأناً؛ وإلاّ لَمَا أمكن للنساء السَّبْحُ فيه، والاستمتاع بمائه.
4. ولنا أن نتمثل ما كان يحيط بهذا الحيز المائيّ من أشجار، ونباتات؛ وما كان يكيّف به الهواء الصادر عنه، والذي يفترض أنه كان رطيباً. ولنا أن نتمثّل ما كان يجاور هذا الغدير أيضاً، وهو حيز مقعّر حتماً؛ وأنه كان مرتفعاً عنه قليلاً أو كثيراً. ولنا أن نتمثّل الطرقات والثَّنِيَّاتِ التي كانت تُفضي إليه، أو تُفْضي منه. ولنا أن نتمثّل أسراب النساء الأخريات، في غير ذلك اليوم الذي حدث فيه للشاعر ما حدث مع العذارى، واللائي كنّ ييمّمنه للتنزه والاستحمام؛ ولنا أن نتمثّل الإماء اللواتي كنّ يقصدنه ليغسلن على ضفافه الملابس والفرش، وكل ما يغسل وينظّف...
5. إنّ أيُّ مدفع للماء، غديراً كان أمْ بِئْراً، أم نَهْراً، أم عَيْناً، أم ساقية، أم سربّا: يكون مَظَنَّةً للحياة الناعمة، والخصب الضافي، والعمران القائم. فكأنّ دارة جلجل كانت هي الغدير الذي كان يستقي منه الحَيُّ لإِرْواءِ الأنعام، وغالباً ما كانوا يشربون هم أيضاً منه؛ وكلّ ما في الأمر أنهم كانوا يُمْهِلُوَن الجِرارَ حتى ترْسُب حَمْأَتُها، ويَقَرُّ في القَعْرَةِ طِينُها، ليصْفُوَ الماءُ وبَرِقَّ؛ فيشرَبوه مَرِيئاً.
فلم يكن هذا الحيز، إذن، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية والحضاريّة للحيّ الذي كانت العذارى تَقْطُنُهُ؛ وإِنما كانت حكاية العُرْي مجرَّدَ مظهرٍ شعريّ غذاه الخيال الشعبيّ المكبوت فسار بين الناس على ما أراد ذلك الخيال؛ فأضاف إليه ما لم يكن فيه، حتى يتلاءم مع ما كانوا يودّون أن يكون الأمر عليه: فتسير به ركبانهم، وتتحدث به وِلْدانُهم. ولنلاحظْ أن حكاية العُرْي تفرّد بذكرها الفرزدق رواية عن جده، وأنها دوّنت، لأول مرة، بعد منتصف القرن الثاني الهجري؛ فكأنها دوّنت بعد عهد امرئ القيس بأكثر من قرنين اثنين.
ولا يذر امرؤ القيس، في حقيقة الأمر، شيئاً عن هذا المشهد الذي لم يكن يمنعه من ذكره لادين وقد كان وثنيّاً، ولا خوف وقد كان أميراً عزيزاً، ولا مروءة وقد كان، فيما تزعم الرواة، عاهراً زانياً(32). فما منعه من أن يفصّل القول في حادثة في هذا الحيز المائيّ الجميل، فيذكر هو ما ذكرت الرواة؟ وهل كان عَييّاً بَكِيّاً غيرَ مبينٍ،. وهو الشاعر العملاق، والفصيح المِهْذَار، واللسِنُ المِكْثار؟ وإِنما اجتزأ هو بذكر عقره مطّيته للعذارى، ولم يقل أكثر من ذلك، ولم يتحدّث عن العُرْي لا تَكْنيَةً ولا تصريحاً... أفلا تكون مسألة العُرْي حكايةً لفقها الرواة؟
6. وإذا سلّمنا بصحّة هذه الحكاية، وما علينا أن نكون سذَّجاً؛ فإنّ هذا الحيّز يغتدى عجيباً مثيراً: غديرَ ماءٍ مكتظّ بأجسام الفتيات العاريات، وفتىً قريباً منهنّ في اليابسة، جاثِماً على ملابسهنّ وهو ينظر إلى عوراتهنّ المغلّظة في شَبَقٍ شديد، ثمّ يستحيل المشهد العاري العامّ إلى مشاهِدِ عُرْيٍ جُزْئِيَّةٍ تمثل في ثُنائِيَّةِ الحركة التي تُحْدثها الفتاة وهي تخرج من الغدير عارية وحركة الرجل وهو يسلّمها ثيابّها، أو أنها هي نفسها تنحني على ثيابها لتأخذها لتستر بها جسدها والفتى ينظر ويتلّهّى: لا هو يخاف، ولا هو يستحي، ولا هو يرعوي!.. إنه مشهد على ما فيه مِنْ فعل الاغتفاص والاغتصاب- من الوجهة الأخلاقية والوجهة القانونيّة أيضاً؛ فإِنه من الوجهة الخياليّة لو وقع في أدب الغرْب لكانوا ملأوا به الدنيا وأقعدوها، ولكانوا صوّروه ألف تصوير، ولكانوا أخرجوه في تمثيلهم ألف إِخراج...
7. من غير الممكن أن لا نتمثّل في وهمنا حيز هذا الغدير الذي كان مسبحاً لأولئك العذارى... ونحن، مع ذلك، لا نستطيع، ولو أردنا وأصرَرْنا، أن نتمثّل حيّزه على وجه الدقّة: لغياب النصوص، وانعدام الوثائق، وغفلة الرجال، وشحّ الأخبار. بيد أنّ ذلك ما كان ليحظرنا من أن نساءل ولكن على أن لا نجيب، وقد يُلْتَمَسُ الجواب في إحدى المساءلات نفسها: فكيف كان، إِذن، شكل هذا الغدير(33)؟ وكم كان حجم مساحته؟ وهل كان مستطيلاً، أو مربّعاً، أو دائرياً، أو على شكل آخر من الأشكال الهندسيّة؟ وهل يمكن أن نفترض أنه لم يكن صغيراً جداً فلا يجاوز حجم شكل العين، ولا كبيراً جداً فيبلغ حجم البحيرة؟ ولكنّ ذلك كلّه لا يظاهرنا على أن نحدّد شكل هذا الغدير/ الأسطورة، ولا مساحته؛ وإنما تُتْرَكُ ملكة الإدراك، وطاقة التخيّل، مفتوحتين على كلّ احتمال، وتحت كل تأويل. فالقراءة الحيزيّة، من هذا المنظور بالذات، يجب أن تظلّ مفتوحة...
8. وعلينا أن نتمثل وجهاً آخر لهذا الحيز المائيّ: وهو سطحه حين تشرق عليه الشمس صباحاً، وسطحه حين توشك أن تغرب عنه مساء، وحين يداعبه النسيم الرُّخاءُ، وحين تعصف عليه السافِيَات... فسطحه تراه يتغير ويتشكل ويتبدل تبعاً لطبيعة الشمس، وشكل مائه يتغيّر تبعاً لحركة النسيم العليل فيتحرك السطح قليلاً قليلاً، أو لعصف السوافي فيتحرك السطح بعنف واغتفاص شديدين؛ فتراه متخذاً له تموّجات تحددها الاتجاهات الأربعة-المفترضة- للرياح العاصفة. فإن كانت الريح إنما تهبّ من جهات مختلفة، وهي التي تسميّها العرب المتناوِحَة، اتّخذ هذا الحيز المائيّ له شكلاً آخر...
9. ومن حقّنا أن نتساءل-وما لنا لا نتساءل؟- عن أشكال ضفاف هذا الغدير، فتبعاً لهذه الأشكال، تتحدّد الأحياز التي تحيط به. ونحن نفترض أن تكون جهة واحدة من هذه الضفاف، على الأقلّ، أعلى من الجهات الأخرى، وإلاّ فمن أين كانت هذه الأمواه تتجمع حتى تشكّل غديراً صالحاً لأن يسبح فيه الناس؟
وقد كِلفَتْ معلقة امرئ القيس بذكر الأحياز المائيّة كما نلاحظ ذلك في المجازات التالية:
- على قطن بالشيم أيمن صَوْبِهِ(أي مطره)
- كأنّ مكاكيّ الجِوَاءِ غُدّيَّةً(لا يمكن أن تتجمّع الطيْرُ إلاّ في جِوَاءٍ، أي وَادٍ، فيه ماء وخضرة...)
- ومرّ على القَنانِ من نَفَيَانِه(ممّا تطاير من قَطْرِ مائه)
- فأضحى يَسُحُّ الماءَ حول كُتَيْفَةٍ
- يكبّ على الأذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبِلِ(استطاع السيل الجارف أن يجتثَّ الدوح)
- كأنّ السِبْاع فيه غَرْقَى عَشيَّةً(لا يكون الغرَق إلاّ في الماء، والمقصود هنا: انغمارُها، وغطْسُها)
- كأنّ ثبيراً في عرانينِ وبْلِهِ
كأنّ ذُرَى رِأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً
|
|
من السيل والأَغْثَاءِ فلْكَهُ مغْزِلِ
|
- غذاها نَمِيرُ الماء غير المُحَلَّلِ...
وإذا كانت الخطّة التي رسمناها في هذا العمل لا تسمح لنا بأن نحلّل هذه الأحياز المرقسيّة كلها، بعد أن كنّا توقّفنا، طويلاً، لدى حيز مائيّ واحد وهو غدير دارة جلجل؛ فإِنَّ ذلك، مع ذلك، ما كان ليحول بيننا وبين أن نلاحظ أنّ ما لا يقلّ عن تسعة أحياز أخراة، كما رأينا، تنطلق من ماء، أو تُحيل على ماء. ولكنْ غالباً ما كان الشأن ينصرف إلى أمواه المطر والسيول وما يضطرب حَوالَها...
ولا نحسب أنّ الإيلاعَ بوصف المطر، في معلّقة امرئ القيس، والتلذّذ بذكر الماء، والتبدّع في وصف السيول والأغثاء التي تجترفها: كان وارِداً على سبيل الاتفاق والعفويّة، ولكنّ ذلك كان، في منظورنا؛ لأنّ العرب كانوا يحبّون الماء، فكانوا يَدْعُوَن لِمَنْ يُحِبّون بالسقْيا، وكانوا يتسقّطون مواطن المطر، ويتتبّعون مهاطله، ويرتعون النبات الذي ما كان لينبت إلاّ بوابل المطر، أو طَلِّهِ... من أجل ذلك تصرفّوا في أسامي درجات هذا المطر فإذا هو غيث، ورَذاذ، وجَدىً، ووابِلُ، وطَلٌّ، ووَسْمِيٌّ، وَوَليٌّ(34)، وحَيَا، وسَحاب، وسَمَاء، وشُؤبْوب، وهلمّ جرا...
والآية على العناية الشديدة التي كان يوليها العربيّ للخصب والماء، أنّ الحياة نفسها، في اللغة العربية، وارادة في تركيب الحَيَا والْحَيَاءِ، وهما المطر. فكأنّ الحياء يحيل على الحياة، وكأن الحياة تحيل على الحياء؛ لأن الحياة لا يجوز لها أن تقوم خارج كيان الماء...
******
وتصادفنا ظاهرة العناية بالصور المائية، أي بالصور الشعريّة التي تضطرب أحداثها في الماء، أو حواله، في معلّقة لبيد أيضاً. وقد تردّدت هذه الصور المائيّة، أو المضطربة في الحيز المائيّ أو السائل، سبع مرات على الأقلّ لدى لبيد.
والحقّ أنّنا وقعنا في حيرة من أمرنا حين أزمعنا على تحليل نموذج من الحيز المائيّ لدى لبيد، كما كنّا جئنا ذلك لدى امرئ القيس؛ إذ لولا صرامة متطلّبات المنهج المرسوم لكنّا قرأنا كلّ هذه الصور المائية الفائقة الجمال في هذا الشعر اللبيديّ العذريّ... ولكن لا مناص من الاجتزاء بوقفة واحدة، حول نموذج واحد من الحيز المائيّ لدى لبيد؛ فَأَسَفاً وعُذْراً.
وجلا السُّيولُ عن الطلولِ كأَنها
|
|
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أَقْلاَمُها
|
لقد كنّا حلّلنا حيز امرئ القيس المتمثل في غدير دارة جلجل، فتوقفنا، طويلاً، لدى شكله وموقعه، وما قد يحيط به، وما قد يتأثر به، وما قد يؤثّر فيه، وما قد كان حَوالَهُ من النعمة والنعيم، والرغد والجمال.
وأمّا هنا، ولدى لبيد، فالحيز المائي لم يعد يرى في هذه الصور الحيزيّة؛ إذْ كان غدير دارة جلجل إنما كان ثمرة من ثمرات تجمّع ماء المطر في حيز مقعّر بعينه؛ فإنّ السيول التي صنعت الحيز لدى لبيد لا نراها، ولكننا نرى آثارَها. لقد أصابت الأمطار هذا الحيز، وهذا الوجه من الأرض فخدّدت سَطْحَه، ووسَمَتْ وَجْهَه فبدا منه ما كان خافياً، وظهر ما كان مستتراً متوارياً؛ ومن ذلكم تلك الطلول التي كانت الرمال نسجت عليها كُثباناً حتى وارَتْها؛ فكان المارُّ ربما مَرَّها فاعتقد أنها كثبانٌ ليس تحتها بقايا حياةٍ، وأنقاض حضارة، وآثار مجتمع... حتى جاءت هذه السيول، فلم تبرح تُلِحّ عليها بالجَرْفِ حتى انجرفت، فبدت خدودٌ هنا، وخدود هناك، وبدا معها بقايا الديار المقفرة: أثافِيّها ونُؤيِها، ومَحَلِّها ومُقَامِها؛ فخَزِنَ لذلك غَوْلُها فِرجَامُها، كما حزن لذلك مَدافِعُ الرَّيَّانِ حين عُرّبَتْ رُسومها، فاغتدت كشكل الكتابة على الصخور...
كانت الطلول مدفونة تحت الرمال، جاثمة تحت التراب، فكانت الذكريات معها مدفونةً، فكانت القلوب من حبّها مشحونة. لقد كانت مغبّرَّة، مُرَمَّلَة، مُتَرّبةً، لا تكاد تبدو للعين؛ فلمّا أصابتْها هذه السيول الجارفة، والناشئة عن هذه الشآبيب الهاطلة؛ لمَّعَتْها فاغتدت كباقي الوشم في ظاهر اليد، وأظهرتها فأمست كلوحة مكتوبة تجدد مَتْنَها أقلامُها بالكتابة فلا تمَّحِى ولا تزول...
1. نلاحظ أنّ لبيداً يصطنع، في هذه اللوحة الحيزيّة، وسيلةً حضاريّة لم تبرح تشعّ بالنور على الإنسانية، وهي الكتابة. فحيزه يمتزج بآثار المطر الهاتن المفضي إلى تمثّل الزَّبْر الماثل. فهل كانت الكتابة شائعةً على النحو الذي يذكره لبيد بحيث كانت الألواح، وكانت المكتوبات عليها، أم إنما كان يومئ إلى مجرد الحفريّات المنقوشة على الصخور والأحجار، والتي يُفَترضُ أن لبيداً، وعامّةَ المستنيرين في عهود ما قبل الإسلام كانوا يلمّون بها فيتمثّلونها في أنفسهم على ما هون ما؟
إنّ منطوق بيت لبيد ومضمونه لا يُبْعِدَان أيّاً من الاحتمالين الاثنين...
2. إنّ الصورة الحيزيّة المائيّة هنا، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، تقوم على خلفيّة حضاريّة لا يكاد التاريخ يعرف عنها إلاّ نُتفَاً قِلاَلاً، ونُبَذاً صِغَاراً. فالإشارة إلى الكتابة، هنا في بيت لبيد، إشارة دقيقة، وفي الوقت ذاته بريئة. فهي إذن توحي بوجود حضارة مكتوبة في الجزيرة قبل الإسلام الذي لم يُبْعَثْ في مجتمع جاهل متخلّف كما قد يتصوّر بعض المؤرخين، ولكنه بُعِثَ في مجتمع مستنير متعلم كانت حضارتُه الفّنية والجماليَّةُ والتقاليديّة تنهض على أسس وقيم مثل تمجيد الفصاحة، وتجويد الكلام، وقرْض الشعر، وارتجال الخُطَب، وارسال الحكم والأمثال وحماية المستجير(35). بل لقد كان في قريش"بقايا من الحنيفيّة يتوارثونها عن إسماعيل صلى الله عليه وسلّم، منها حجُّ البيت الحرام وزيارته، والختان والغسل، والطلاق والعتق، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر" (36).
وقد زعم الزجّاجيّ أن"الحَنِيفَ في الجاهليّة مَنْ كان يَحُجُّ البيت، ويغتسل من الجنابة، ويختتن" (37).
3. إنّ الصورة الشعريّة، في هذا البيت الَّلبِيدِيّ، تنهض على حيز معلَّقّ في كَتِفِ جبل، حيث السيل حرْبٌ للمكان العالي؛ كما يعبّر أبو تمّام. فَلِعُلُوّ هذا الحيز، وحَزْنه، واتسامه بالارتفاع: يَسُرَ على السيل أن يعرِّيَهُ من ترابه، ويجرّده من رماله، فيتخدّد ويتجرّد، ويبدوَ ما كان منه متوارياً؛ فيغتدِيَ ظاهراً بادِياً. فلو كان هذا الحيز مقعَّراً أو مسطّحاً ممتدّاً على وجه من الأرض سهل، لما استطاع السيل أن يعرّيه؛ بل لكانت أغثاؤُه زادته انغماراً فوق انغمار: فلا تبدو الطلول، ولا تتعرّى الرسوم.
4. نؤكّد ما كنّا أومأنا إليه آنفاً من أننا، هنا، إنما نحن بصدد ملاحظة الحيز بعد حدوث فعل السيول؛ فهو حيزٌ مائيٌّ باعتبار العلاقة المفعوليّة التي تعرض لها. فكما أنّ الأحياز المائيّة(البحار- الأنهار- الآبار- العيون- الغدران...) كانت، أو تكون، ثمرةً من ثمرات تَهاتُنِ الأمطار؛ فإنَّ هذه الطلول التي كانت مغمورةً تحت ركام الرمال والتراب والأغثاء لم تغتَدِ كذلك إلاّ بفعل هذه الأمطار.
5. إنّ الحيز الميت الموحي بالحزن، والمفضي إلى القتامة والوجوم، بفعل السيول السائلة، والأمواه الجارفة؛ يستحيل إلى حيز آخر قمين بالجمال والنور، وهو رسوم الكتابة، وأشكال الخطوط. فالأقلام هنا كأنها بمثابة السيل الفاعل الذي لا يبرح ينشط ويتحرّك، ويدْفَع ويحتفر، إلى أن يَتّركَ أُثرَه بادياً على وجه الأرض وسطحها الهشّ؛ بينما المُتونُ تقابلُ سطح الأرض القابل لأنّ تعملَ فيه السيولُ فتخدِّدَه وتَسِمَهُ وسَمْاً. فكأنّ السيول أقلامٌ تَكتْبُ؛ وكأنّ الطلول متون كانت من أجل أن يُكْتَبَ فيها، أو عليها. فاللوحة الحيزيّة هنا مركّبة، ولا تُفْهَمُ إلا بتعويم هذا التركيب وإذابته في بعضه بعضٍ. فكما أنّ الأقلام تزبر بحروفها التي هي علامات تَتِّركُ على المَتْن المزبور؛ فإنّ السيول بحرفها وغشيانها سَطْحَ الأرض تَتَّرِكُ، هي أيضاً، على هذا المتن الأرضيّ علاماتٍ هي تلك الآثار الطليليّة المختلفةِ الأشكالِ التي تبدو من بعيدٍ كالكتابة على متن من المتون، أو وجه من الوجوه.
6. نلاحظ أنّ هذه اللوحة الحيزيّة المركّبة تنهض على مظاهِرَ تشاكليّة مثل تشاكل السيول التي تحفر بسيلانها سطح الأرض فتتّرك عليه علاماتٍ؛ وتطبعه بأماراتٍ؛ مثل الأقلام التي تَزْبُرُ بسيلان حِبْرها على الورق فتذر عليه أيضاً علامات. فالطلول تتشاكل مع الزّبر، والأقلام تتماثل مع السيول، ومتون الوَرق تتجانَسُ مع سطح الأرض الوارد في صدر البيت ضِمْناً، وقد غاب، لمقتضيات التكثيف الشعري، منطوقاً.
7. يجمع هذا الحيز المائيّ-الَّلبِيديّ- بين المظهر الأنتروبولوجيّ المتجسّد في الطلول البالية، وإن شئت في هذه التخديدات التي تذرها السيول على وجه الأرض بما ينشأ عن ذلك من طقوس تعامل الناس مع المطر، وخصوصاً في المناطق الصحراويّة، وبين المظهر السيماءَوِيّ الماثِلِ في سمة الكتابة التي تتركها المزابِرُ على القرطاس فتغتدي سماتٍ دالّةً يتفاهم المتلقّون من خلالها .
فالألفاظ المكتوبة، أو اللغة الخرساء، تغتدى مُمَاثِلاَتٍ(إقُونات) للأصوات الدالّة الغائبة ضمناً. فالألفاظ إذن سمات حاضرة دالّة على سمات غائبة. فالدلالة هنا تقوم على مبدأ المُمَاثِلِيةِ.
8. إنّ هذه الطلول كانت قائمة، ولكنها كانت شديدة البلى، متناهية الشحوب؛ فلما جاءت السيول جَلَتْها، وصقَلت آثارَها، فتجدّدت كفعل الكاتب حين يجدّد حروف كتابته على صفحة ورقة: فتبرُزُ بعد أمِحّاءٍ، ويتوهَّجُ لونُها بعد شحوب.
9. كأنّ النص هنا يصوِّرُ حيزاً حاضراً على سبيل العناية باللوحة الأماميّة. أمّا ما نطلق عليه نحن"الحيز الخلفيّ"، وهو الذي كان علّة في إيجاد الحيز الماثل، فالحديث عنه لم يكُ إلا عَرضاً؛ إذ السيول هي التي كانت علّة في تخديد الأرض، فالأخاديد سمة حاضرة دالّة على سمة غائبة هي السيول، فهي تنضوي تحت الصور السيماءَوِيَّةِ القائمة على مثول القربنة.
ونلفي صوراً لِلَوحاتٍ حيزية أخراة تَمْثُلُ في معلقّة لبيد كقوله:
رُزِقَتْ مرابيعَ النجوم وصابَها
|
|
ودْقُ الرَّواعِد: جَوْدُها فَرِهَامُها
|
يعلو طريقَةَ مَتْنِها مُتواتِرٌ
|
|
في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها
|
من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ
|
|
وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرزامُها
|
فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرّيَّ رَسْمُها
وأسْبلَ واكِفٌ من دِيَمةٍ
|
|
يُرْوي الخمائلَ دائِماً تَسْجامُها
|
عَلِهَتْ(جزعت) تَرَدَّدُ في نِهَاءِ(غدير) صُعَائِدٍ...
*****
ولعلّ عنترة أن يكون ثالث المعلّقاتيّنين الذين عُنُوا عنايةً شديدة برسم الحيز المائيّ، ووصف الأمكنة الخصيبة التي هي ثمرة من ثمرات تهاتن الأمطار، وتساقط الغيوث.
ونحن لا يسعنا إلاّ أن نتوقّف لدى الصورة الشعريّة المائية التي أبدع فيها، فحلّق وتفرّد... وهي تلك التي تَمْثُلُ في قوله:
أو رَوْضَةً أُنُفاً تضَمَّنَ نَبْتَها
|
|
غَيْثٌ قليلُ الدِمْنِ ليس بمُعْلَم
|
جادَتْ عليها كُلُّ عينٍ ثَرَّةٍ
|
|
فتركْنَ كلَّ حديقة كالدِرْهم
|
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ
|
|
يَجْرى عليها الماءُ لم يَتَصرَّمِ
|
فهذه اللوحة الحيزيّة بديعةُ المظهر، جميلة المنظر؛ فغيْثُها نظيف شريف؛ فكان نبتُه أنيقاً ناضراً، ومُخضَوْضِراً فاخراً؛ قد تغافص في هذه الحديقة الأُنُفِ فتكاثر واعشوشب، وَرَبَا واخْضَوْضرَ. لقد سقت الغيوث هذه الحديقة سَحّاً وتَسْكاباً، وأمطرتها جَوْداً غَدَقاً، وتَهْتَاناً طَبَقاً؛ حتى اهتزّت وربّتْ، واخْضَرَّتْ وأزهرَّتْ:
1. إنّ أوّل ما يسم هذا الحيز الخصيب البديع هو اخضرار نبْته، وتغافص عشبه متنامِياً متعاليا.
2. لم يكن هذا الحيز مخضرَّاً، أصلاً؛ ولكنه اخضرَّ بفعل تهاتن الأمطار، وتساكب الغيوث الكريمة عليه، فاستحال من مجرد حيز قاحل، إلى روضةٍ أُنُفٍ خَصِيبٍ.
3. إن هذا الحيز الأماميّ البديع، لا يلبث أن يُفضي إلى حيز أبدعَ منه بَدَاعَةً، وأروع منه روعةً؛ وهو الحيز الخلفيّ الناشئ عن الحيز الأماميّ الذي هو، في الأصل، مشهد تهاتن الأمطار خيوطاً بيضاءَ ممتدّة امتداداً عموديّاً من عَلُ إلى تَحْتُ؛ فتلك الخيوط المائيّة(القطر المتهاطل) -وهي حيز مائيّ- هي التي تفضي، بفعل تَسكابها المِلْحاح، وتَسْجامِها المِغْزار، إلى تشكيل حيز آخر هو هذه الِبَركُ المائيّة الصغيرة التي تحتقنها الأرض في أيّ بقعة منقعرة منها؛ حتى إذا ما أصابتها الشمس، وأشرقت عليها بأشعّتها، رأيت هذه العيون كالمرايا المثبتة على وجه الأرض، أو كالدراهم المستديرة الشّكل، الفضيّة اللون، الناصعة المنظر. فالحيزّ الغائب هو هذه الأشعة الشمسيّة التي بفضلها استحالت العيون المائيّة إلى ذات مرآة تُشَاكِهُ مَرْآةَ المرايَا الضخمة اللَّقَى في الفَلْوَاتِ، والعاكسة لأشِعَّةِ الشمس المتوهّجة.
4. ولعلّ من الواضح أنّ حيز العيون/الدراهم، أو العيون/ المرايا: لم يكن ممكِناً مشاهَدَةُ مَرْآتِهِ من مكان مستوٍ، ولكن من مكانٍ عالٍ. فكأنّ هذه الأمطارَ كانت تهاتنَتْ على سهول شاسعة، فتركتها عيوناً، عيوناً؛ ولكنّ مشاهدتها لم تكن ممكنة إلاّ من أَعالِيها، ومن فَوْقِ ذُرَاهَا، لِتَبْلُغَ رَوْعَةُ الجمالِ الطِبيعِيّ غايَتَاهَا...
5. واستخلاصاً من بعض ما حَّلْلنا، يمكن أن نعدّ هذا الحيز المائِيَّ متحوّلاً، أي أنه ليس أصلياً، لأنّ الأصل فيه القُحولَةُ لا الخِصْبُ، واليبس لا الإمراعُ الرَّطْب، ولم يغتِد إلى ما اغتدى إليه إلاّ بفضل الحَيَا النازل، والسماءِ الهاتن. فكأنّ هذا الحيز الخصيب الماثل في هذه اللوحة، يشكّل مُمَاثِلاً(إقونة) ناقصاً لحيز غائب. أو قل إنه على الأقل معلول لعلّة غائبة، فيكون الخصب معلولاً للماء، والماء معلولاً للسحاب؛ فهو إذن إمّا مُماثل ناقص، أو قرينة كاملة. أو ليس الخِصْبُ الماثل في هذا النص المؤلَّف من ثلاثة أبيات، إنما هو سمة حاضرة وقعت بفضل سمة غائبة، وهي المطر النازل؟ (38).
6. وبينما مَرآةُ العيونِ الثّرَّةِ، أو الغُدْران الصغيرة، التي تشكّلت بها الأرض المسقيَّةُ بماء المطر هي أيضاً إمّا مُمَاثل ناقص(غدران الماء الماثلة للعَيْنِ) تماثل مياه الأمطار الغائبة عن العين)؛ فإنّ الغدران لم تَكُ، وهي السِّمةُ الحاضرة، إلا قرينةً للسمة الغائبة التي هي الغيث الهاتن.
7. إنّ هذا الحيز المائيّ، أو الحيز الخصيب، له شبه بحيز لبيد:
وجَلا السيولُ عن الطُّلولِ كأَنها
|
|
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقْلامُها
|
من حيث تأثيرُ المطرِ في الأرض، غير أن صورة لبيد توحي بالوحشة، وصورة عنترة توحي بالأنس. ولا سواء مطر يُعَرّي الأرض فيذكّر بمدفونات الذكريات، ومطر يسقيها فتغتدي مُخْصِبَةً مخضرّة، ومُمْرِعة مُعْشِبة.
8. ويسْتَمِيزُ هذا الحيز-العَنْتَرَيّ- المسقِيُّ بتحديد علاقته بالزمن بحيث لا يكاد يحدث له ذلك إلاّ في العَشايا والأمساء. والذي يعرف الجزيرة العربيّة وَجَنوبَها خصوصاً يدرك مدى صدق هذا الوصف. ولعلّ من فوائد أمطار الأماسي أنّ الناس في معظمهم يكونون قد قضوا مآربهم اليوميّة فيكونون إمّا آبُّوا إلى بيوتهم، وإما هم بصدد الإيَابِ، كما أنه يتحاين مع حلول الليل ورطوبته التي تسمح للأرض بارتشاف الماء على مهل؛ ممّا يجعل النفع بهذا المطر أكثر. ولو تساكب المطر ضُحىً، ثمّ جاءت عليه الشمس المحرقة لكانت أتَتْ على رطوبة الماء، وجفّفتْ قشرة الأرض؛ فلا ينتفع النبات، أثناء ذلك، إلاّ قليلا.
*****
وأمّا الحيز المائيّ لدى المعلّقاتيّين الآخرين فإنه شحيح الوجود، وربما يكون طرفة بن العبد أذكرَهم له، وأكثرَهم تعامُلاً معه، وإن ظلّ هذا الحيز المائيّ إمّا بحريّاً ونهريّاً، كما في قوله:
- يجوز بها الملاّحُ طوارا ويَهْتَدِي
- يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيزْومُها بِها
- كَسُكَّانِ(ذَنَبِ السفينة) بُوصِيّ(ضرب من السفن) بِدِجْلَةَ مُصْعدِ؛
وإمَّا صحراويّاً، ولكنه يظلّ مع ذلك خِصْباً مثل قوله:
- (...) تَرْتَعِي
|
|
حدائِقَ مَوْليّ الأَسِرَّةِ أَغْيَدِ
|
ولكن أين ذلك من اللوحات الحيزية المائيّة البديعة التي كنّا صادفناها لدى امرئ القيس، ولبيد، وعنترة بن شداد؟
ولا يقال إلاّ مثلُ ذلك في الحارث بن حلّزة، وعمرو بن كلثوم، وزهير بن أبي سلمى.
****
ثانياً: الحيز الخصيب:
قد لا يختلف الحيز الخصيب عن الحيز المائيّ، فذلك ملحق بهذا، وهذا علّة في ذاك. وليس إِفراد الحيز الخصيب، هنا بالذكر، إِلاّ من باب التفصيل والتجزِيءِ.
فمن ذلك ما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى:
بها العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً
|
|
وأطلاؤُهُنَّ ينهَضْ من كُلِّ مَجْثَمِ
|
فهذه الرسوم الدَّوارِسُ، والطُّلولُ البَوالي، والدُّيارُ الخَوالي، أخضارَّ نباتُها، وتغازَر ماؤُها، فاغتدت مَراتِعَ خصيبةً للبقَر والثيران الوحشية؛ كما أمست مغانِيَ لِلأْرْءَامِ يتراكض فيها، ويطوّفن بين أرجائها. فلولا خِصْبُ هذا الحيز المسكوت عن اخضراره منطوقاً، ولكنه وارد في هذا البيت مضموناً: لما صادفْنا هذه الحيوانات الوحشيّة التي لا تعيش في مألوف العادة إلاّّ في الأماكن الخصيبة، والمغاني الرطيبة. وقد طاب لها المقام فيها إلى أن توالدت فتكاثرت بحيث لا نلفي الأبقار الوحشيّة وحدها هي التي تنعَمُ بهذا الإمراع والسكون؛ فقد يدلّ ذلك على أنّ وجودها هناك كان مجرّد عبور، ولكننا نصادف أَطلاءَها وهنّ ينهضن من كلّ مجثم، ويتواثبن في كلّ مرتع.
وإنما يدلّ قوله"من كلّ مجثم" على التكاثر والتسافد.
ومثل ذلك لا ينشأ إلاّ عن الخصب الذي هو بمثابة الرخاء للإنسان.
وتصادفنا لوحة حيزيّة أخراة خصيبة في بعض معلّقة لبيد، وتتجسّد في قوله:
من كلّ ساريَةٍ وغادٍ مُدْجنٍ
|
|
وَعِشيَّةٍ مُتجاوِب أَرْزَامُها
|
فَعَلا فروع الأيْهقانِ وأطفَلَتْ
|
|
بالجَلْهتَيْن ظِباؤُها ونَعامُها
|
- والعينُ ساكنُةُ على أطْلائِها
- فالضيف والجارُ الجَنِيبُ كَأنّما
|
|
هَبَطا تَبَالَةَ مُخْصِباً أهَضْامُها
|
فالأولى: إنّ هذه الصور الحيزيّة مُمرعة الخِصْب، شديدة الخضرة؛ فكأنها تمثّل حال الربيع في أوج طوره، وذروة اعْشِيشَابِه؛ فهل هي صورة حقيقيّة عاشها الناصّ فرسمها لنا رسْماً عبقرياً، أم هي مجرّد صورة جماليّة كان يتمثلَّهُا للطبيعة العذريّة فضمّنها نَصُّه، فأحسن نَسْجَه؟
والثانية: إننا نصادف تقارباً بلغ التشابه والتماثل بين قول عنترة:
سَحّاً وتَسْكاباً فكُلُّ عشيّةٍ
|
|
يجرى عليها الماء لم يَتَصرَّمِ
|
وبين قول لبيد بن أبي ربيعة:
من كلّ سارية وغادٍ مُدْجِنٍ
|
|
وعَشيَّةٍ متجاوبٍ إرْزامُها
|
وأيّاً كان الشأن؛ فإنّ بلاد العرب، وخصوصاً المرتفعات اليمنيّة، تتهاطل أمطارها، في الغالب، بالرعود أولاً، وبالعشايَا آخِراً. وما ورد لدى عنترة ولبيد قد يكون مجرد توكيد لهذه الحال الطقسيّة التي تبرح قائمة إِلى يومنا هذا.
والثالثة : إنّ قول لبيد:
والعِينُ ساكنةٌ على أطلائِها
يُشارِكهُ قولَ زهير:
بها العِينُ والأرآمُ يمشِينَ خِلْفَةً
|
|
وأطلاؤُهُنَّ ينهَضَ من كُلِّ مَجْثَمِ
|
وكلّ ما في الأمر أنّ أبقار لبيد لا تبرح محتضنة لأطلائها؛ على حين أنّ أبقار زهير كأنها كانِتْ تخلّت عن الحَضْن، وسَمحت لأطلائها بأن تسرح معها فتتلاعب في هذا الخصب الكريم، وهذا الحيز الرطيب.
ولعلّ هذا التشابه أن يدلّ، كما كنّا أومأْنا إلى بعض ذلك من قبل، على أن نصوص المعلقّات تشكّل وحدة واحدة على ما قد يبدو فيها من تفرّد؛ فالتفرّد إنما يَمْثُلُ على مستوى المعالجة والطرْح، لا على مستوى القضّية والمضمون. بل إننا لَنلاحظ أنّ التشابه يطفر على مستوى النسج وتوظيف اللفظ...
والرابعة : إنّ هناك تماثُلاً آخرَ يمثل في بيتَيْ زهير السابقيْن، وبيت لبيد:
فعلا فروعُ الأيهقانِ وأطفلَتْ
|
|
بالجلهتين ظباؤها ونَعامُها
|
فصورة الخصب في حيز زهير غائبة، وإنما يدلّ عليها الحال التي تعيشها الأبقارُ العِينُ، وأطلاؤهنّ المَرِحاتُ. على حين أنّ صورة الخصب في لوحة لبيد مفصّلة بشكل أدقَّ حيث إنه يذكر ارتفاع نبْت الأَيِهَقَانِ بفعل الغيوث المتهاتنة والمتتابعة... ولقد بلغ الخصب بهذه الْعِينِ إلى أن تسافدت، فتوالدت بما أطفلت بضفَّتيْ هذا الوادي الخصيب.
فالشأن في هذه اللوحة الحيزيّة المخضرّة ينصرف إلى الماء الجاري في الوادي المسكوت عنه، والذي تتضمّنه الجَلْهَتَانِ(الضفّتان)-؛ وإلى جَلْهَتَيْ هذا الوادي وقد جاء ذكرهما نَصّاً.
والخامسة : نجد كلاًّ من زهير ولبيد يتحدث عن ثلاثة أصناف من الحيوانات الوحشية- التي ترتبط حياتُها بالخصب والماء، والكلأِ والسَّماءِ-: العِين(الأبقار الوحشيّة)، والآرم- أو الأْرْآم- (الظباء البيضاء)، والأطلاء(أولاد البقر في السنّ الأولى التي قد لا تتجاوز شهراً واحداً) (39).
بيد أنّ لبيدا يفوق زهيراً بحيوان وحشيّ رابع هو النَّعام. ولعلّ ذلك أدعى إلى زيادة الخِصْبِ في حيزه، وأدلّ على تكاثر نباته، على الرغم من أنّ هذه الحيوانات كلها قادرة على العيش في الصحراء. ولكن لا ينبغي أن تتمثَّل هذه الصحراء على أنها مجرّد حيز أجرد أجدب، قاحل ما حل: لا نبت فيه ولا شجر، ولا عشب ولا كَلأَ؛ إِذ كلّ هذه الحيوانات إنما تتغذَّى من حُرِّ الكلأِ وخالِصِ أوَراقِ الأراكِ...
والسادسة: إنّ أطفال الظباء والنعام يؤكّد الخصب الخصيب لهذه اللوحة الحيزيّة لسببين:
1- لوجود الوادي وضفّتيه.
2- لا يمكن أن يقع الأطفالُ والحَضْنُ إلاّ إذا كان المكانُ خصيباً، والجوّ ملائماً للتكاثر والتسافد.
والسابعة: ومن الآيات على ثبوت خصب هذا الحيز، وإِلحاح النص المعلقّاتي عليه، معاودة لبيد الحديث عنه في موطن آخر من معلقّته، وهو قوله متحدثاً عن زوج البقرة والثور:
فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيّ وَصدَّعَا
|
|
مَسْجُورَةً مُتَجاوراً قُلاَّمُها
|
محفوفَةً وسْطَ اليَراعِ يُظِلُّها
|
|
منها مُصَّرعُ غابةٍ وقِيَامُها
|
ففي هذين البيتين نصادف لوحة حيزية عجيبة الخصب، فهناك:
1- الماء(السريّ وهو النهر الصغير، ومسجورة: أي عيناً مسجورة؛ أي عيناً نضَّاحَةً بالماء)،
2- الغابة،
3- اليراع (وهو القصب بما فيه اخضرار وبُسُوقٍ وتَرَهْيُؤٍ حين يُصيبه النسيم)،
4- يُظِلُّها(والضمير فيه يعود على اليراع).
فهنا لا يصادفنا الشجر وحده، ولا الماء وحده، ولكنهما اجتمعا؛ بل لقد اجتمع كلّ منهما في صورتين اثنتين: السريّ الذي هو نهْر صغيرٌ جارٍ، والعَيْن المسجورة بالماء، الطافحة به؛ فإن شئت، إذن، نظرت إِلى الماء في هذا الحيز جارِياً، وهو ذاك الماثل في هذا السرِيّ الذي قيّض الله مثله لمريم حين وضعت عيسى(40) -فكانت تتشرّب من مائه، وتننسّم من نسيمه- فعَلْت؛ وإن شئت، إذن، تظلَّلْت بظِلال اليَراع، وظِلال أشجار الغاب، أَتَيْتَ...
فكأنَّ هذا الحيز يمثّل طبيعة بعض بلاد الألب؛ ولكنّ الذي يذهب اليوم إلى بلدة إبّ مثلاً، باليمن، يدرك حقيقة هذه اللوحة الحيزيّة الخصيبة، وإنّ بلاد العرب، فيما يبدو، كانت من الخصب والماء على غير ما هي عليه الآن...
*****
ذلك، وأنّا كنّا، في الأصل، رَصْدَنَا أضرُباً أُخراةً من الحيز في هذه المقالة، ابتغاءَ تحليلِها، ولكن لَمَّا طال النفَس، أضرَبْنا عن ذلك إلى حين. ومما كنّا رصدناه من أنواع الحيز ما أطلقنا عليه: الحيز المتعالِي، والحيز المضيء، والحيز المنشطر، والحيز العارِي... وقد اجتزأنا، كما رأينا، بالحيز المائيّ، والحيز الخصيب، وركّزنا خصوصاً، على المظاهِر الجماليّة في تحليلاتنا لذيْنِكَ الضربَيْن من الحيز. فذلك، ذلك.
البعث و الاحياء
مقدمة*
يمثل عصر النهضة نقطة تحول في القصيدة من طور الصنعة والبديع إلى طور البعث والإحياء حيث إشتدت الرغبة في العودة إلى الأصول القديمة بإعتبارها نماذج تُحتوى بها ومنطلقا أساسيا للإنعتاقمن قيود الركود والجمود ويعد(صاحب النص)بشهادة عدد من النقاد وإلى حنين أحد الرواد الذين كان لهم الفضل الكبير في إحياء الشعر العربي والشاعر(فلان+التكلم عن حياته).فإلى أي حد كان هذا الشاعر مثلا للثراث الشعري القديم؟ وما الخصائص التي إلتزم بها وسعى إلى بعثها وإحيائها؟وماهي حدود تقييده بعمود الشعر
العربي؟
العرض*
فالقصيدة التي بين أيدينا التي عُنوِنيت بـ(عنوان القصيدة)لـ(صاحبها)،تعد من أبرز القصائد وأجملها،فمن فمن خلال الملاحظة البصرية يلاحظ أن شكل القصيدة لايختلف في شيء عن القصائد العربية القديمة،فهي تنتمي إلى الشعر العمودي،الاقائم على نظام الشطرين المتناظرين-الصدر والعجوز-ويتقيد فيه صاحبه بوحدة القافية والروي والوزن والعنوان(عنوان القصيدة)جاء ببنية لغوية(مركبة لفظية أو أكثر)(بسيطة لفظ واحد)وهو يحيل على موضوع(موضوع القصيدة)الذي تختزله كلمة(أحد ألفاظ العنوان)ويؤطر دلالت القصيدة وكما أنا قراءة أبياتها(..)تُفظي إلى إستنتاج عام مفاده أن ثمة مواقف مختلفة وأبعاد متنوعة ودلالات متعددة وتختزل تجربة الشاعر وتعلن عن أحواله النفسية وإنفعالاته الداخلية،وهذا يعني أن مضامين هذه القصيدة ليست واحدة وأيما تتنوع حسب إختلاف الوحدات الدالة عليها والمواقف المعبرة عنها وهذه تعتبر سمة أساسية من سمات القصيدة الكلاسيكية ويتبين هذا من خلال الوحدالت التي قسمها صاحب النص قصيدته وهي على النحوالتالي،فالوحدة الأولى تضم الأبيات{..}حيث يخصص شاعرنا بالحديث عن(..)أما الوحدة الثانية فتضم الأبيات{..}وفيها يتنقل الشاعر من الحديث عن(..)إلى الحديث عن(..)وأخيرا الوحدة3 والتي تضع الأبيات{..}وقد ضمَّنها الحديث عن(..)أما على صعيد المعجم فنلاحظ هيمنة حقل(..)على حقل(..)،هذا يفضي إلى حظور ذات الشاعر المتكلمة.والملاحظ من خلال تتبع الحقلين أن العلاقةالتي تربط بينهما هي علاقة(إنسجام،تكامل،تضاد..)،والمتأمل في الصور الشعرية نجد أن القصيدة تعتمد في تشكيل مضامين على تقنيات البلاغية العربية القديمة من(سجع،تشبيه،إستعارة،مجاز،جناس،طباق)ومن التشابيه تشبيه الشاعر في البيت{..}(أمثلة)ومن الإستعارة(أمثلة)..وبعد ذلك يتحقق حضور كا من الإيقاع الداخلي والخارجي(البحر،الوزن،الروي،القافية)،فالقصيدة نظمت على وزن البحر(أذكر البحر)ذي التفعلة المركبة وهومن البحور الخليلية الفخمة وهو يضفي على القصيدة إيقاعا موسيقيا رناناً.وإذا كان شاعرنا قد إلتزم بتفعيلة البحر(..)فإنه قد إلتزم في الآن نفسه بوحدة القافية(تحديدهاونوعها)(مقيدة أو مطلقة)ووحدة الروي(حرف)محافظا بذلك على أهم خصائص القصيدة العمودية ذات نظام الشطرين المتناظرين والذي يخلق تجانسا إيقاعياً ينسجم ‘لى حد كبير مع حركات المدِّ وتكرار بعض الأصوات(أمثلة)إضافة إلى ذلك نجد أن شاعرنا من الناحية الأسلوبية يتأرجح بين الإخبار والإنشاء رغبة في وصف الحالة النفسية للشاعر،ومن الصيغ الإنشائية نجد(التعجب)(أمثلة)وكذلك أسلوب(النداء)(أمثلة)وكذلك أسلوب(التمني)(أمثلة)،وكذلك نسجل حظور الضمائر(الغائب أوالمخاطب أوالمتكلم)وكلها تحيل عن واقع المأساة التي تعانيها ذات الشاعر.
خاتمة*
وتأسيسا على ما سبق يتضح لنا من خلال قصيدة الشاعر(عنوانها)قد ظل وفيا لتقاليد القصيدة العربية ومخلصا لنظامها وبالتالي تأكد لنا بالدليل والبرهان على إنتماء هذه القصيدة إلى خطاب البعث والإحياء
المعاصرة و التحديت
مقدمة°
كاتت القصيدة العربية القديمة تشكل نموذجا لايمكن تخطيه سواء حيث الشكل أو من حيث خصائص المضمون وظلت قرونا طويلة تسير ببطء شديد ماعدا بعض النكبات التجديدة التي كنَّا نلمحها عنذ بعض الشعراء لكن هذا التجديد في الموضوعات فقط.أما الصياغة فقد ظلت على حالها وبالنسبة للشكل الشعري فلم يتغير ومع بداية القرن 20 حيث ظهرت محاولات التجدي عند البارودي،لكنها لم تكن سوى باعث للقديم من مرقده وفي المهجر ظهرت نازك الملائكة وبدرشاعر السياب،هذه الحركة كانت رائدة للحركة الإبداعية المناهضة للأشكال القديمة البالية والداعية إلى التجديد قلباً وقالباً،حيث حيثأصبح فيها الشعر رؤية إنسانية وكشفُنا عن عالم يظل أيدا في حالة إلى الكشف، والشاعر(صاحب القصيدة،نبذة عنه)ينتمي إلى هذا التيار الأخير الذي سمّي بخطاب المعاصرة والتحديث.إذن فكيف مثّل شاعرنا هذا الخطاب؟وماهي الخصائص الشعرية التي بنا بها القصيدة؟
العرض°
يعلن عنوان القصيدة منذ الوهلة الأولى على مؤشرات لوضع فرضيات تقرأ في ضوئها الأبيات المنتقاة.حيث يتكون العنوان من (لفظةأوأكثر)فـ(اللفظة الأولى)وهو يحيل على(موضوع القصيدة)التي تختزله لفظة(أحد ألفاظ العنوان)وإذا تأملنا النص نلاحظ أنه يتكون من عدة وحدات فالوحدة الأولى تتضمن الأشطر(عددها)حيث خصص الشاعر بالحديث عن(مضمون الوحدة)أما الوحدة الثانية(عدد الأبيات)فقد تطرقت بالحديث عن(مضمون الوحدة)..،وواضح أن هذه الدلالات تأكدت من خلال تواتر حقول عديدة والدالة عليها وهي الحقل الدال على(ذِكر الحقل)والحقل الدال على(ذِكر الحقل) فالحقل الأول تشكله الألفاظ التالية(أمثلة) والحقل الثاني تشكله الألفاظ الآتية(أمثلة)وإذا كانت الألفاظ في هذه الظاهرة الأدبية تكشف عن مواقف الشاعر تجاه(المستعمرمثلاُ..)هذا الموقف الذي إنتهى به إلى العيش في(المنفى،السجن،المعتقل،العيش منعزلا..)وإذا كانت الألفاظ في هذه التجربة الشعرية تُعَدُّ مدخلا رئيسيا في الكشف عن البنية الإيقاعية للنص وأول ما يلاحظ أن الشاعر إعتمد على تكرار بعض الألفاظ مثلا (أمثلة)ولعل في تكرار هذا اللفظ(عدد التكرار)يوحي بـ(موقف الشاعر)كما أن الأصوات المتكررة هي(حسب النص)كما أضفت هذه الاصوات نغمة موسيقية تتلونبحسب الوسط الذي تتواجد فيه.كما أن الشاعر إعتمد على السطر الشعري بدل البيت الشعري التقليدي وقد مكنه ذلك من خلق إنسياب الأسطر الشعرية في بعضها البعض إضافة إلى هيمنة الروي(الحرف)بنسبة كبيرة في مقابل(الحروف الأخرى)وإلى تنويع المزايا بين(ذِكر البحور)،ويبدو أن الصور الشعرية في قصيدة (عنوانها)ناجمة عن(عرض النص)،وقدإستعمل شاعرنا اساليب جديدة من صور تمتلث في(التشبيه،الإستعارة،المجاز،الجناس،الرمز..)ويتأرجح النص من الناحية الأسلوبية بين الإخبار والإنشاء ومن الصِيَغْ الإنشائية نجد (التعجب{أمثلة})وكذلكأسلوب(النذاء{أمثلة})وقد أضيف اسلوب(النهي{أمثلة})وكذلكنسجل حظور الضمائر حيث نجد(الغئب،المخاطب،المتكلم)كما وُضِّفَ الأسلوب الخبري حيث نجد الجمل الفعلية ومن أمثلثها(أمثلة)وكذلك الجمل الإسمية(أمثلة).
خاتمة
ونخلص مما سبق إلى القول بأن القصيدة (عنوان)لـ(صاحبها)هي قراءة جديدة لتاريخ الإنسان في الكون تربط القضايا الراهنة بجدورها النفسية والتاريخية وقراءة توحد بين الأبعاد الذاتية والجماعية عن طريق توضيف الرمز بإعتباره إقتلاداُ لغوي يكشف عن مجموعة من الدلالات والعلاقات في بنية دينامية تسمح لها با
*التطوير رالتجديد
مقدمة*
لم تقف حركية الشعر العربي عندالحدودالتي رسمها له رواد الكلاسيكية من أمثال الباروديوشقي وحافظ بل تخطّت تلك الحدودنحو تطوير الشعر وأساليبهمتفتحة على آفاق جديدة ومغايرة إستجابة لعواملتحديثالمجتمع وعصرنيته تأثرا بالنموذج الغربي حيث كان الأديب توّاقاً إلىالتجديدحالماً بمجتمع إنساني أكثر إستعدادا للتواصل معالخطاب الأدبي الذي روجهالرومانسيون عن المحبة والطبيعةوالإنسانت ويُعدُّ(صاحب النص)أحد رواد الإتجاهالرومانسي(حياة الشاعر).إذن فكيف مثّلشاعرنا هذاالإتجاه؟و ماهي الخصائص الشعريةالتي بنا بها القصيدة؟
*العرض*
يعلن عنوان القصيدة منذ الوهلةالأولىعلى مؤشرات لوضع فرضيات نقرأ في ضوئها الأبياتالنتقاة،حيث يتكون العنوان من (لفظأو لفظتين)(اللفظة1)وهومؤشر على أن القصيدة(حسب مؤشرها)و(اللفظة2)بإعتباره رمزاالحالة قد تكون هي حالة للشاعر.وعندنا قرائتنا للبيت 1 والأخير نضعأيدينا علىمفاتيح تؤشر على أن القصيدة تلج عالمالوجدان،وتعكس من البداية إحساس بالألم توحيبه لفظة(ذكراللفظة)وخلال إلتقاط هذه المؤشرات الدالة يلاحظ القارئ على أن القصيدةلاتصدمه بناء غير مؤلوف لديه إذ تتكرر القافية على نمط واحد(أوتنويعالقافية)ويأتيشكل الأبيات متوازية الأشطر(أومقاطع)ومن هذاالمنطلق يمكن إفتراض أن قراءة النصتُفضي بنتا إلى عالمالوجدان والذات.وعندما نبدأ مغامرة الكشف عن معاني النص نلتقيمنذ البداية بدلالات تؤكد خصائص هذا العالم المثالي وعالم الحلم(أوالمدينة)حيثيهرب الشاعر من موقف مرفوض باحثا عن عالممثالي جسدته الطبيعة في صفائها وفطرتهاوكمالها،وتتمفصلالقصيدة إلى(عدد)وحدات..أولها تجسد لحظة(..)وثانيها(..)ثم يصورثالثها لحظة(..).إذن مما سبق يتضح أن القصيدة تنقل تجربة ذاتيةللشاعرفي(حياته،غربته،عزلته)من خلال حظور ثيمات فيالقصيدة من خلال الحقل الدالعلى(..)ومن أمثلثه(..)والحقلالدال على(..)ومن أمثلثه(..)وإذا كان إستخدامحقلين(الأول)و(الثاني)مؤشرا على أبعاد النص فإن دلالاته بُنيت علىأساس(تقابل،تعارض،إنسجام)حيث نخلص إلى أن أكثر الحقولالمهيمنة في القصيدة هو(الحقل)ونحن نرويبخطوات الأعين علىالقصيدة نهضت الصور الشعرية تفرض نفسها قائلة ها آنذا بمجازاتمثلا(أمثلة)وكذلك صرحة الإستعارة بكلماتها(أمثلة)إلى جانب الطباق حيثنجد(أمثلة)ومنكل هذا نخلص إلى أن القصيدة غنية بصورهاالشعرية ما إستطعنا الإبتعاد عن قرائتهاوبعد ذلك يتحققحضور لكلتى الإيقاعين اللذان حضر بقوة لا من ناحية الإيقاع الداخليوالتي تمثلت في تكرار الاصوات(أمثلة)وكذلك الكلمات التالية(أمثلة)وكذلكنجد الإيقاعالخارجي حاضرا بتنوع رويه وقافيته{*ونظمالشاعر قصيدته على البحر(إسمه)أو *وقد نظمالشاعر فصيدتهعلى أحد البحورالخليلة الفخمة}.أما من ناحية الأسلوب فالملاحظ أنهيتأرجح بين الإخبار والإنشاء رغبة في وصف الحالة النفسية ومن الصيغالإنشائية نجدالتعجب(أمثلة)وكذلك أسلوبالنداء(أمثلة)وأسلوب النفي(أمثلة)إلأى جانب اسلوبالإستفهام(أمثلة)وأسلوب التمني(أمثلة)كما وضف الأسلوب الخبري الذي نجدهحاضرا عنطريق الجمل الإسمية(أمثلة)والجملالخبرية(أمثلة)وكذلكحضورضمائر(الغائب،المخاطب،المتكل م)وكلها تحيل على صورة المأساة التيتعانيها ذاتالشاعر.
*خاتمة*
وتأسيسا على ما سبق ننتهي القول إنقصيدة(العنوان)لـ(صاحبها)قد جسد فعلا مستويات خطاب التطوير والتجديدوما دعا إليه منتجاوز للتقليد والتشبث بالتجديد على مستوىالشكل الشعري والصورة واللغة
نمودج لامتحان اللغة العربية
قال الشاعر محمود درويش في قصيدة بعنوان الى القارئ
الزنبقات السود في قلبي
وفي شفتي ....اللهب
من اي غائب جئت
ياكل صلبان الغضب
بايعت احزاني
وصافحت التشرد والسغب
غضب يدي....
غضب فمي....
ودماء اوردتي عصير من غضب
ياقارئي
لاترج الطرب
هذا عذابي
ضربة في الرمل طائشة
واخرى في السحب
حسبي اني غاضب
والنار اولها غضب
الشاعر محمود درويش شاعر فلسطيني معاصر للقضية الفلسطينية منذ بدايتها
الزنبقات .. ازهار
السغب.. الجوع
اوردة .. ج وريد عروق
المطلوب
اكتب موضوعا تحلل فيه النص تحليلا ادبيا وفق الخطوات المنهجية مسترشدا بمايلي..
-
ضع النص في اطاره العام
-
حدد المضامين الاساسية للنص
-
ابرز الخصائص الفنية للنص
-
حدد مظاهر الاختلاف النص المدروس مع القصيدة الاحيائية
المؤلفات
ورد في كتاب ظاهرة الشعر الحديث لاحمد المعداوي مايلي..
"في ظل هذا الشمول الذي اتجه بالمضمون اتجاها وجدانيا صرفا اتيح للقصيدة العربية الحديثة ان تعيد النظر في اصنافها والوانها واحداث زينتها الاخرى التي تحولت بفعل الزمان الى قيود تبهر العين ببريقها وتملا القلب شفقة بما تخفي وراءها من مضامين هزيلة"
المطلوب انطلاقا من هذه القولة ابرز الفروقات القائمة بين القصيدة الاحيائية والقصيدة الوجدانية مستثمرا دراستك لكتاب ظاهرة الشعر الحديث
ادخل
http://www.startimes2.com/f.aspx?t=9836244
نموذج لتحليل قصيدة في خطاب تكسير البنية و تجديد الرؤية
النص: بتصرف من قصيدة ( كلمات سبارتكوس الأخيرة )
للشاعر : أمــل دنــقـل
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
لاتخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إلي
لربما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عيني
يبتسم الفناء بداخلي .. لأنكم رفعتم رأسكم مره
سيزيف لم تعد على أكتافه الصخره
يا قاتلي.. إني صفحت عنك
لــكنني أوصيك ..إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشجر
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقا
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي الربيع
والعام عام جـوع
وربما يمر في بلادنا الصيف الخطر
فتقطع الصحراء .. باحثا عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير والرمال.. والهجير والرمال
والظمأ الناري في الضلوع
يا قيصر الصقيع
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان ..في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت .. قصير جديد
* شروحات معجمية:
سبارتكوس: شخصية واقعية من التاريخ الروماني؛كان عبدا مملوكا لأحد قياصرة الروم ، فتمرد على الأسياد بتأليفه جيشا من العبيد رغبة في التحرر. ولكنه انهزم أمام جيوش القيصر قبل نجاح ثورته.
سـيـزيـف: شخصية خرافية تقول الأسطورة اليونانية؛ أنه كان محكوما عليه من طرف الآلهة بالصعود الى قمة جبل وهويحمل على كاهله صخرة. لكنه ما إن يقترب من القمة حتى تسقط الصخرة، فيعيد حملها مرارا دون جدوى.
مطرقين: منحني الرؤوس / الهجير: شدة الحر والقيظ./ القيصر: سيد الروم
المرجع : كتاب ( أمـل دنـقـل .. عن التجربة والموقف) ص110 – 113 تأليف : حسـن الغـرفـي/ الطبعة الأولى 1986
التحليل
تحليل قصيدة ( كلمات " سبارتاكوس" الأخيرة ) للشاعر أمل دنقل
أ - ففي المقطع الأول ما بين السطرين ( 1 و 6 ) يعكس الشاعر حالة مناداة صادرة عن صاحب الوصية ، وهو نداء موجه إلى أناس يعتبرهم إخوة له بحكم انتمائهم إلى صفه / صف منحني الرؤوس ( العبيد ) . وذلك وسط ميدان / ساحة من يتحكم في مصيرهم جميعا ، يناديهم ليوجه إليهم دعوته الأخيرة كي يرفعوا هاماتهم ويفخروا بكونهم يمثلون فريقهم / صف الراغبين في التحرر؛ حتى يواجهوا المصير بشجاعة وكرامة . ويستشهد بتجربة ( سيزيف ) الذي كان شخصا صلبا عنيدا في مواجهة القدر/ قدر العذابات التي كانت مقترنة بحمل الصخرة إلى قمة الجبل كما تخبر الأسطورة بذلك .
ب ـ ثم نجد الشاعر في المقطع الثاني ما بين السطرين ( 7 و 18 ) يكرر النداء لكنه ـ هذه المرة ـ موجه للمعتدي وليس للمعتدى عليه / للجلاد لا للضحية ، وذلك بتوجيهه خطابا إنسانيا يكشف تسلط الطاغية وعدوانيته . ويدعوه لاحترام تلك الوصية الواردة بين السطرين ( 8 و 9 ) . فالشاعر على لسان سبارتاكوس يدعو جلاده إلى الاستجابة لمطلبه الإنساني المتحضر ؛ لعله يثنيه عن إعدام عناصر الحياة المتمثلة في ( الشجر والجذوع والظلال ) ، ويحذر القاتل الجاني بأنه سوف يحتاج يوما ما إلى كل تلك العناصر عندما تنقلب الأحوال فيصبح من الباحثين عن حماية أو مأوى فلا يجدهما في قفار البيد ، ما دامت الأشجار والظلال قد أعدمت بأمر منه لتنصب مشانقا. وهكذا يضع الشاعر أمام هذا الطاغية صورة لردعه عساه يتراجع عن بطشه بالأبرياء . يقوم الشاعر بكل ذلك وهو يحاصر هذا المعتدي / القاتل بصفته السلطوية ؛ تلك الصفة المناقضة لكل ما هو إنساني متميز بالدفء العاطفي عندما يناديه " يا قيصر الصقيع " لفقدانه المشاعر النبيلة اتجاه أخيه الإنسان ، وتنجلي هذه الميزة السلطوية في النص من خلال الإصرار على تكرارها ( ثلاث مرات ) .
ت ـ وفي المقطع الثالث والأخير ( ما بين السطرين 19 و 22 ) نجد شخص الضحية / سبارتاكوس يعود لمناداة رفاق الصف / إخوته في المعاناة والقهر ؛ ليكشف أحوالهم المأساوية من خلال مشهد مأساوي يرصد وضعهم المهين . ثم في الختام يعلن رفضه تلك النزعة الانتظارية الواهمة التي يتبناها البعض وهو ينشد تغيير وضعية الاستبداد . فنسمع سبارتاكوس ينذر أتباعه باستمرارية العبودية ما دامت الأحلام لا تجدي نفعا ؛ وما دام زوال المعتدي أو موته لن يأتي إلا بمعتد جديد .
وهكذا يتضح الطابع التحريضي لوصية سبارتاكوس / للخطاب الشعري لأمل دنقل ، وهو خطاب يمثل ما يعرف في الأدبيات النقدية بالشعر الملتزم ؛ والذي يعبر من خلاله المبدع عن هموم الإنسان المقهور والمستعبد حيثما كان .
أما من حيث الحقول الدلالية فيمكن التوقف عند طبيعة المعجم الموظف شعريا في النص لنلاحظ ما يلي :
حقل دال على الطبيعة في تقلباتها
|
حقل دال على أحوال الإنسان
|
الصخرة ، الشجر ، الجذوع ، الصحراء ، الظلال ، الرمال ، الهجير ، النار ، الصقيع
|
الأخوة ، الرحمة ، الجوع ، الظمأ ، الحلم ، الإنحناء
|
وهناك حقل دال على الزمان ( المساء ، الصيف ، الربيع ) . غير أن الملاحظ على المعجم الدال على الذات / ذات الضحية نجده مهيمنا على النص بكامله ( على لسان صاحب الوصية ) وخلاله نجد الشاعر يتوارى خلف قناع ذلك الزعيم التاريخي (سبارتاكوس ) ، مما يعكس خطاب الوصية المزدوج والذي يتوجه عبره الشاعر إلى الآخر سواء باعتباره قاتلا أو باعتباره قتيلا . وما بين أنا الزعيم ( الضحية )والآخر( الطاغية والضحية / القيصر والعبيد ) يتضح المناخ التراجيدي لعلاقة الصراع التي تحدث عنها القصيدة .
أما المستوى الأسلوبي للنص فنجد الشاعر يمزج ما بين الإنشاء والخبر ؛ حيث نصادف النداء ( 4 مرات ) والأمر( مرة بصيغة مباشرة وثلاث مرات بصيغة النهي ) " ولترفعوا ـ لا تخجلوا ـ لا تقطع ـ لا تحلموا " . وهناك الأسلوب التقريري المباشر كما ورد في السطرين ( 6 و الأخير) . وهكذا جاء الخطاب الشعري للنص متأرجحا ما بين الرغبة في التأثير بقصد إشراك المتلقي في غمرة الشعور الإنساني بذلك الوضع المأساوي ؛ وبين السعي لإقناع نفس المتلقي بفداحة الموقف العدواني من طرف المستبد / القاتل . وقد كان الشاعر يسلك ـ إلى جانب التأثير والإقناع ـ مسلك الترغيب والترهيب كما في الوحدة النظمية الدلالية التالية ( الأسطر 12 ، 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 17 ) . ومما يضفي لمسة تراثية على النص توظيف الشاعر بعض المحسنات اللفظية مثل ( الربيع ـ الصيف / النار ـ الصقيع / الظلال ـ الهجير ) ولكن ذلك التوظيف جاء في سياق منظومة شعرية وليس بصيغة البديع التقليدي . فمن خلال ما يعرف بأسلوب المقابلة نجد الربيع يقابله الشجر والجذوع والظلال ، ونجد الصيف في مقابل الصحراء والرمال والهجير والظمأ ( لتتجلى ثنائية النعيم والشقاء ) فهو يضع الجاني بين خيارين.
أما المستوى الإستعاري فإنه يعكس الجانب الفني التصويري في القصيدة حيث نجد الشاعر أمل دنقل يعتمد على توظيف رموز معينة منها ( المساء كرمز لتلك اللحظة الوجودية الموحية بالنهاية / الصخرة كرمز لثقل هموم المعاناة والعذابات / الظلال كرمز للاحتماء بنعيم الرحمة / الصحراء كرمز للجدب وقساوة القهر الطبيعي / الانحناء كرمز للانكسارو المهانة بفعل الهزيمة / القيصر كرمز للاستبداد والجبروت ) . كما يعمد الشاعر ـ في معرض تصويره ـ إلى ما يعرف في أدبيات الفن السابع / السينما بالتصوير المشهدي ، فهو يصور بعض اللحظات المأساوية بشكل بانورامي . وكأن القارئ (ة) أمام أحد مشاهد أفلام التاريخ القديم والتي تسجل فشل حركة تمرد ما أو ثورة لم تلبث أن انتهت بهزيمة المتمردين الساخطين . لقد أبدع الشاعر في هذا التصوير دونما حاجة إلى بعض التقنيات البلاغية التقليدية ( كالتشبيه مثلا ) . ولنقرأ معا قول أمل دنقل في المقطع الأول وهو يصور مشهد زعيم الثوار spartacus مصلوبا / بؤرة اللحظات المؤثرة في النص الى جانب نصب الجذوع مشانق ، حيث لم يستطع أتباعه من العبيد رفع رؤوسهم ليروه مصلوبا بعدما تجرأ على حمل السلاح في وجه سادات المجتمع الروماني وعلى رأسهم القيصر . وهناك مشهد آخر في الأسطر ( 14 ، 15 ، 16 ، 17 ) ؛ والذي يصور فيه دنقل حالة الطاغية وهو يتيه في البيداء بدون مأوى أو ملجأ يحتمي به من قساوة القيظ ، حيث لا ظل يواريه ولا ماء يرويه سوى " الهجير والرمال".
أما المستوى الإيقاعي والذي يمثل موسيقى النص الخارجية فالشاعر قام بنظم قصيدته هاته على إيقاع تفعيلة ( بحرالرجز ) (مستفعلن) التي تطرأ عليها أحيانا علة نقص بحذف الثاني الساكن فتصير (متفعلن) ؛ فمثلا نجد في السطر الأول التقطيع الآتي " يا إخوتل / لذين يع / برون فل / ميدان مط / رقين من / " . وإلى جانب الإيقاع الخارجي نجد تنوعا آخر في الإيقاع الداخلي ؛ ونلاحظ ذلك بخصوص الروي ( ما بين النون والياء والهاء والكاف والعين والراء واللام والدال ) ، وذلك ملمح من ملامح تكسير معايير العروض الخليلي. وهو ما يضعنا أمام تنوع آخر يتعلق باختلاف القوافي ، فهناك القافية المركبة كما هو الحال بين الأسطر ( 8 ، 11 ، / 9 ، 14 / 13 ، 17 ) والقافية المتتابعة كما هو الحال بين الأسطر (5 ، 6 / 11 ، 12 ، 13 / 19 ، 20 / 21 ، 22 ) والقافية المرسلة كما في ( 1 ، 2 ، 3 / 7 ، 8 ، 9 ) . ومن مظاهر الإيقاع الداخلي كذلك ؛ تكرار بعض الحروف التي تشكل الأرواء ، وكذا تكرار بعض الألفاظ ذات الميزان الصرفي المتماثل مثل ( مطرقين ، منحدرين / مرة ، صخرة / الشجر ، الخطر / الجوع ، الضلوع / الربيع ، الصقيع / الظلال ، الرمال / سعيد ، جديد ) وهو ما يعرف في البلاغة التقليدية بالسجع . ويأتي تكرار ألفاظ بذاتها مثل ( إخوتي ، العام ، الهجير ، الرمال ، القيصر) وأحيانا نجد تكرار أسطر بكاملها .
أما الموقف الفكري من خلال التيمات المهيمنة في النص ؛ فيتجلى في التعبير عن إرادة التحرر باعتماد خطاب التحدي ، رغم أن التيمتين الملحوظتين في النص هما الانكسار / الخضوع ( مطرقين ، منحدرين ، في انحناء ) و القهر / الاستبداد ( الموت ، الفناء ، الشنق ، القتل ) . لكن موقف التمرد والتحدي والكبرياء يبدو من خلال ( لاتخجلوا / ولترفعوا عيونكم / رفعتم رؤوسكم مرة / لاتحلموا ) . وهكذا يمكن إدراك الرؤية الشعرية التي يمكن رصدها من خلال مواقف الشاعر ؛ وذلك عبر فهم الرسالة الإبداعية التي تعكس النظرة الواقعية للصراع بين العبيد والأسياد والتي لم يعد صاحبها يقتنع بالأماني الحالمة لحسم ذلك الصراع.
· الخاتمة :
بعد هذه المقاربة والتوقف عند تجليات تكسير البنية وتجديد الرؤية في الخطاب الشعري لدى أمل دنقل سواء على المستوى الهندسي للنص أو على المستوى الإيقاعي ( بالخروج على نمطية الشكل العمودي والنظم العروضي ) ، أو من حيث التصوير الفني المعتمد على لغة شعرية منتقاة بشكل دقيق وانزياحات استعارية ساهمت في تكسير أفق انتظار المتلقي في أكثر من موقع كما في قول الشاعر : ( إذا التقت عيونكم بالموت في عيني / يبتسم الفناء بداخلي ) ، ( سيزيف لم تعد على أكتافه الصخرة ) ، (يا قاتلي .. إني صفحت عنك / لكنني أوصيك ) ، ( فخلف كل قيصر يموت .. قيصر جديد ) . إضافة إلى كل تلك الملامح نجد التوظيف الدقيق والعميق لمعطيات التراث الإنساني من تاريخ وأسطورة ، وهو ما يخرق محدودية الاعتماد على تراث الهوية الجغرافية نحو انفتاح أرحب بل وأقرب من هموم الإنسان من أي طينة كان .